قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون
هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم ، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة ، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها .
[ ص: 207 ] والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استئنافها الاهتمام بمضمونها ، كي تتوجه الأسماع إليها ، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله
قل إنما علمها عند ربي قل إنما علمها عند الله للاهتمام باستقلال المقول ، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله ، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول - عليه الصلاة والسلام - نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة ، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب ، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك ، وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه ، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيبة ، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلا ما شاء الله .
في تفسير
البغوي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أن
أهل مكة قالوا : يا
محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل منها إلى التي قد أخصبت ، فأنزل الله - تعالى -
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة ، وقد جمع رد القولين في قرن .
ومعنى الملك هنا الاستطاعة والتمكن ، وقد تقدم بيانه عند قوله - تعالى -
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا في سورة المائدة ، والمقصود منه هنا : ما يشمل العلم بالنفع والضر لأن المقام لنفي معرفة الغيب ، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عمله .
وقدم النفع في الذكر هنا على الضر : لأن النفع أحب إلى الإنسان ، وعكس في آية المائدة لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم ، وأنها لا يخشى غضبها .
وإنما عطف قوله
ولا ضرا مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير ، وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله - تعالى -
ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا في سورة الفرقان . وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب ، لأن غاية الناس من التطلع إلى
[ ص: 208 ] معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها ، وإلى التجنب لمواقع الأضرار ، فنفي أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر ، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل ، وهو من الغيب .
والاستثناء من مجموع النفع والضر ، والأولى جعله متصلا ، أي إلا ما شاء الله أن يملكنيه بأن يعلمنيه ويقدرني عليه ، فإن لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه ، وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع ، ومن أسباب اتقاء الضر ، وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله - تعالى - وهي المسماة بالكسب ، فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى معرفة شيء مغيب أطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله - تعالى -
إذ يريكهم الله في منامك إلى قوله
ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقوله
ولو كنت أعلم الغيب إلخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب ، سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شئون غيره .
فحصل من مجموع الجملتين أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، في عالم الشهادة وفي عالم الغيب ، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب ، مما فيه نفعه وضره وما عداه .
والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير ، وتجنب السوء ، استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه أول ما يعلم وهو الغيب الذي يهم نفسه ، ولأن الله لو أراد إطلاعه على الغيب لكان القصد من ذلك إكرام الرسول ، - صلى الله عليه وسلم - فيكون إطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي إطلاعه عليه ، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى .
ودليل التالي ، في هذه القضية الشرطية ، هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية ، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له بالسوء .
وجملة
إن أنا إلا نذير وبشير من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة استئنافا بيانيا ، ناشئا عن التبرؤ من أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبيء فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن
[ ص: 209 ] نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم ، ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفى عنه ما نفى ، فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات .
وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير هنا : لأن المقام خطاب المكذبين المشركين ، فالنذارة أعلق بهم من البشارة .
وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله - تعالى -
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا في سورة البقرة .
وقوله
لقوم يؤمنون يتنازع تعلقه كل من " نذير وبشير " : لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم ، دون الذين جعلوا ديدنهم التكذيب والإعراض والمكابرة ، فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه ، ليشمل من تهيأ للإيمان حالا ومآلا ، وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى ، وهذا على حد قوله - تعالى -
إنما أنت منذر من يخشاها .
وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع ، وإيلاء وصف البشير بقوم يؤمنون ، إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين ، وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو لأضداد المؤمنين ، أي المشركين ، وهذا المعنى مقصود على نحو قوله - تعالى -
لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين .
وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن ، وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة .