وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
استطراد بذكر تأييد إلهي آخر لم يجر له ذكر في الكلام السابق ، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون
وابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حرض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها المشركين ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال : شدوا ، فكانت الهزيمة على المشركين ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا ، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة ، وهذا أصح الروايات ، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم
بدر وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة ، فالخطاب في قوله " رميت " للنبيء - صلى الله عليه وسلم - .
والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكته اليد ، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من
[ ص: 295 ] فعل أو قول كما في قول
النابغة :
رمى الله في تلك الأكف الكوانع
أي أصابها بما يشلها - وقول
جميل :
رمى الله في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوارح
وقوله - تعالى - "
والذين يرمون أزواجهم " فيجوز أن يكون " رميت " الأول وقوله "
ولكن الله رمى " مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وكرامة لأهل
بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله ، ويكون قوله " إذ رميت " مستعملا في معناه الحقيقي . وفي
القرطبي عن
ثعلب أن المعنى : وما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ، وفيه عن
أبي عبيدة : إن رميت الأول والثاني و " رمى " مستعملة في معانيها الحقيقية وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي ، والمثبت في قوله " إذ رميت " هو الرمي المجازي وجعله
السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل " ما رميت " نفيا للرمي الحقيقي ، وجعل " إذ رميت " للرمي المجازي .
وقوله " إذ رميت " زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور ، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله "
فلم تقتلوهم " لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد ، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غير الله ، لم يكن نفي ذلك التأثير وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجا إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاصلا منه ، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالا لاحتمال المجاز في النفي بأن يحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار كقول
عباس بن مرداس :
فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي شيئا مجديا ، فدل قوله " إذ رميت " على أن المراد بالنفي في قوله " وما رميت "
[ ص: 296 ] هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله "
فلم تقتلوهم " لأن الرمي واقع من يد النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، علم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله "
ولكن الله رمى " كالقول في "
ولكن الله قتلهم " .
وقرأ
نافع والجمهور " ولكن " بتشديد النون في الموضعين وقرأه
ابن عامر ، وحمزة ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بسكون النون فيهما .