وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون
عطف على قوله "
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم ، بيانا بالصراحة .
و ما استفهامية ، والاستفهام إنكاري ، وهي في محل المبتدإ ولهم خبره ، واللام للاستحقاق ، والتقدير : ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله ، فكلمة ما اسم استفهام إنكاري والمعنى لم يثبت لهم شيء .
و " أن لا يعذبهم " مجرور بلام جر محذوفة بعد أن على الشائع من حذف الجر مع أن والتقدير : أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو من عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب ، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم ، أو توقع حلوله بهم ، تقول العرب : " ما لك أن لا تكرم " أي أنت حقيق بأن تكرم ولا يمنعك من الإكرام شيء ، فاللفظ نفي لمانع الفعل ، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه ، فلم يبق ما يحول بينك وبينه .
[ ص: 336 ] وقد يتركون " أن " ويقولون : ما لك لا تفعل ، فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال ، وتكون تلك الحال هي مثير الاستفهام الإنكاري ، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال .
وجوزوا أن تكون ما في الآية نافية فيكون " أن لا يعذبهم " اسمها ، و " لهم " خبرها ، والتقدير : وما عدم التعذيب كائنا لهم .
وجملة "
وهم يصدون عن المسجد الحرام " في موضع الحال على التقديرين .
والصد الصرف ، ومفعول يصدون محذوف دل عليه السياق ، أي يصدون المؤمنين عن
المسجد الحرام بقرينة قوله
إن أولياؤه إلا المتقون فكان الصد عن
المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة ، لأنه يئول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بناه مؤسسه ليكون علما على توحيد الله ومأوى للموحدين ، فصدهم المسلمين عنه ، لأنهم آمنوا بإله واحد ، صرف له عن كونه علما على التوحيد ، إذ صار الموحدون معدودين غير أهل لزيارته ، فقد جعلوا مضادين له ، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضادا للتوحيد وأهله ، ولذلك عقب بقوله "
وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " وهذا كقوله "
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم . والظلم الشرك لقوله
إن الشرك لظلم عظيم .
وهذا الصد الذي ذكرته الآية : هو عزمهم على صد المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعتمروا ، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون
مكة . في الكشاف : كانوا يقولون : نحن ولاة
البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء .
قلت : ويشهد لذلك قضية
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ مع
أبي جهل ففي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، أنه حدث عن
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ : أنه كان صديقا
لأمية بن خلف ، وكان
أمية إذا مر
بالمدينة نزل على
سعد ، وكان
سعد إذا مر
بمكة نزل على أمية فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
المدينة انطلق
سعد معتمرا فنزل على
أمية بمكة فقال
لأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف
بالبيت ، فخرج قريبا من نصف النهار ، فلقيهما
أبو جهل ، فقال : يا
أبا صفوان من - كنية
أمية بن خلف - هذا معك . فقال : هذا
سعد فقال له
أبو جهل : ألا أراك تطوف
بالبيت آمنا وقد
[ ص: 337 ] آويتم الصباة ، أما والله لولا أنك مع
أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما " الحديث .
وقد أفادت الآية : أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم
بدر ، من القتل والأسر ، هو من العذاب ، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنبيه
محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة بل سلط على كل أحد من العذاب ما يجازي كفره وظلمه وإذايته النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفرا عرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم ، مثل
النضر بن الحارث ، وطعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي جهل ، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفرا واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا ، بقرب أو بعد ، وهؤلاء مثل
أبي سفيان ، nindex.php?page=showalam&ids=137وحكيم بن حزام ، nindex.php?page=showalam&ids=22وخالد بن الوليد ، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه ، وحقق بذلك رجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341584لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده .
وجملة "
وما كانوا أولياءه " في موضع الحال من ضمير " يصدون " والمقصود من هذه الحال إظهار اعتدائهم في صدهم عن
المسجد الحرام ، فإن من صد عما هو له من الخير كان ظالما ، ومن صد عما ليس من حقه كان أشد ظلما ، ولذلك قال - تعالى -
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أي لا أظلم منه أحد لأنه منع شيئا عن مستحقه .
وجملة
إن أولياؤه إلا المتقون تعيين لأوليائه الحق ، وتقرير لمضمون "
وما كانوا أولياءه " مع زيادة ما أفاده القصر من تعيين أوليائه ، فهي بمنزلة الدليل على نفي ولاية المشركين ، ولذلك فصلت .
وإنما لم يكتف بجملة القصر مع اقتضائه أن غير المتقين ليسوا أولياء
المسجد الحرام ، لقصد التصريح بظلم المشركين في صدهم المسلمين عن
المسجد الحرام بأنهم لا ولاية لهم عليه ، فكانت جملة "
وما كانوا أولياءه " أشد تعلقا بجملة "
وهم يصدون عن المسجد الحرام " من جملة "
إن أولياؤه إلا المتقون " وكانت جملة "
إن أولياؤه إلا المتقون " كالدليل ، فانتظم الاستدلال أبدع انتظام ، ولما في إناطة ولاية
المسجد الحرام بالمتقين من الإشارة إلى أن المشركين الذين سلبت عنهم ولايته ليسوا من المتقين ، فهو مذمة لهم وتحقيق للنفي بحجة .
[ ص: 338 ] والاستدراك الذي أفاده " لكن " ناشئ عن المقدمتين اللتين تضمنتهما جملتا "
وما كانوا أولياءه "
إن أولياؤه إلا المتقون " لأن ذلك يثير فرض سائل يسأل عن الموجب الذي أقحمهم في الصد عن
المسجد الحرام ، ويحسبون أنهم حقيقون بولايته لما تقدم عن الكشاف ، فحذف مفعول " يعلمون " لدلالة الاستدراك عليه لتعلق الاستدراك بقوله "
وما كانوا أولياءه " .
وإنما نفى العلم عن أكثرهم دون أن يقال ولكنهم لا يعلمون فاقتضى أن منهم من يعلم أنهم ليسوا أولياء
المسجد الحرام ، وهم من أيقنوا بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستفاقوا من غفلتهم القديمة ، ولكن حملهم على المشايعة للصادين عن
المسجد الحرام ، العناد وطلب الرئاسة ، وموافقة الدهماء على ضلالهم ، وهؤلاء هم عقلاء أهل
مكة ومن تهيأ للإيمان منهم مثل
العباس nindex.php?page=showalam&ids=222وعقيل بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=12026وأبي سفيان بن حرب nindex.php?page=showalam&ids=137وحكيم بن حزام nindex.php?page=showalam&ids=22وخالد بن الوليد ومن استبقاهم الله للإسلام فكانوا من نصرائه من بعد نزول هذه الآية .