فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد تفريع على قوله :
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فإن كان المراد في الآية المعطوف عليها بالأربعة الأشهر أربعة تبتدئ من وقت نزول " براءة " كان قوله :
فإذا انسلخ الأشهر الحرم تفريعا مرادا منه زيادة قيد على قيد الظرف من قوله :
أربعة أشهر أي : فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله :
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، وإن كانت الأربعة الأشهر مرادا بها الأشهر الحرم كان قوله :
فإذا انسلخ الأشهر الحرم تصريحا بمفهوم الإذن بالأمن أربعة أشهر ، المقتضي أنه لا أمن بعد انقضاء الأربعة الأشهر ، فهو على حد قوله تعالى :
وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله :
غير محلي الصيد وأنتم حرم فيكون تأجيلا لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر ، ثم تحذيرا من خرق حرمة شهر رجب ، وكذلك يستمر الحال في كل عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى :
منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم
وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ . وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان ، أي إزالته . ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة .
والحرم جمع حرام وهو سماعي لأن " فعلا " بضم الفاء والعين إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد . وحرام صفة . وقال
الرضي في باب الجمع من شرح الشافية : إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع . وقد تقدم عند قوله تعالى :
الشهر الحرام بالشهر الحرام سورة البقرة . وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب .
[ ص: 115 ] وانسلاخها انقضاء المدة المتتابعة منها ، وقد بقيت حرمتها ما بقي من المشركين قبيلة ، لمصلحة الفريقين ، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم ; لأن حرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها .
والأمر في
فاقتلوا المشركين للإذن والإباحة باعتبار كل واحد من المأمورات على حدة ، أي فقد أذن لكم في قتلهم وفي أخذهم ، وفي حصارهم ، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام ، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة ، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله :
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر والمقصود هنا : أن حرمة العهد قد زالت .
وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنهم لا يقبل منهم غير الإسلام . وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة . وقد عمت الآية جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة .
والأخذ : الأسر .
والحصر : المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين .
والقعود مجاز في الثبات في المكان ، والملازمة له ; لأن القعود ثبوت شديد وطويل . فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظان تطرق العدو المشركين إلى بلاد الإسلام ، وفي مظان وجود جيش العدو وعدته .
والمرصد مكان الرصد . والرصد : المراقبة وتتبع النظر .
و " كل " مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها ، تحذيرا للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدو منها ، أو من التفريط في بعض ممار العدو فينطلق الأعداء آمنين فيستخفوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أن المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة ، فيؤول معنى " كل " هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول
النابغة :
بها كل ذيال وخنساء تـرعـوي إلى كل رجاف من الرمل فارد
[ ص: 116 ] وانتصب
كل مرصد إما على المفعول به بتضمين اقعدوا معنى " الزموا " كقوله تعالى :
لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، وإما على التشبيه بالظرف لأنه من حق فعل القعود أن يتعدى إليه بـ " في " الظرفية فشبه بالظرف وحذفت " في " للتوسع .
وتقدم ذكر " كل " عند قوله تعالى :
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها في سورة الأنعام .