قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام ، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباب المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين ، ومن الأسباب التي تتعلق بها نفوس الناس فيحول تعلقهم بها بينهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام ، فلذلك ذكر الأبناء هنا لأن التعلق بهم أقوى من التعلق بالإخوان ، وذكر غيرهم من قريب القرابة أيضا .
وابتداء الخطاب بـ " قل " يشير إلى غلظه والتوبيخ به .
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين : المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقع منهم ذلك ، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشك وهو " إن " ويفهم منه أن المسترسلين في ذلك الملابسين له هم أهل النفاق ، فهم المعرض لهم بالتهديد في قوله :
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين
وقد جمعت هذه الآية أصنافا من العلاقات وذويها ، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها ، فإذا كان الثبات على الإيمان يجر إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الدين ،
[ ص: 153 ] وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم ، فلعل ذلك يقعده عن الغزو ، وكالأموال والتجارة التي تصد عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله . وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصده إلفها عن الغزو . فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجر إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربه .
وقد أفاد هذا المعنى التعبير بـ ( أحب ) لأن التفضيل في المحبة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين ، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسببا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله ، ففيه إيقاظ إلى ما يئول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير .
وخص الجهاد بالذكر من عموم ما يحبه الله منهم : تنويها بشأنه ، ولأن ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف ، جعله أقوى مظنة للتقاعس عنه ، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة
تبوك التي تخلف عنها كثير من المنافقين وبعض المسلمين .
و العشيرة الأقارب الأدنون ، وكأنه مشتق من العشرة وهي الخلطة والصحبة .
وقرأ الجمهور ( وعشيرتكم ) بصيغة المفرد وقرأه
أبو بكر عن
عاصم " وعشيراتكم " جمع عشيرة ووجهه : أن لكل واحد من المخاطبين عشيرة ، وعن
أبي الحسن الأخفش : إنما تجمع العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، وهذه دعوى منه ، والقراءة رواية فهي تدفع دعواه .
والاقتراف : الاكتساب ، وهو مشتق من قارف إذا قارب الشيء .
والكساد ، قلة التبايع وهو ضد الرواج والنفاق ، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم ، وبالانقطاع عن الاتجار أيام الجهاد .
وجعل التفضيل في المحبة بين هذه الأصناف وبين محبة الله ورسوله والجهاد : لأن تفضيل
محبة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف ، فإيثار هذه الأشياء على محبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبون الكفر ، وإلى القعود عن الجهاد .
[ ص: 154 ] والتربص : الانتظار ، وهذا أمر تهديد لأن المراد انتظار الشر . وهو المراد بقوله :
حتى يأتي الله بأمره أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبة الأقارب والأموال والمساكن ، على محبة الله ورسوله والجهاد .
والأمر : اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن ، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهددين كل مذهب محتمل ، فأمر الله : يحتمل أن يكون العذاب أو القتل أو نحوهما ، ومن فسر أمر الله بفتح
مكة فقد ذهل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح .
وجملة
والله لا يهدي القوم الفاسقين تذييل ، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقق أنهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنهم من الفاسقين .