ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون عاد الكلام على المنافقين : فضمير ( ألم يأتهم ) و ( من قبلهم ) عائدان إلى المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله :
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، أو الضمير في قوله :
ولهم عذاب مقيم
والاستفهام موجه للمخاطب تقريرا عنهم ، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم .
والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله - تعالى :
يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وقد تقدم في سورة العقود ، شبه حصول الخبر عند المخبر بإتيان الشخص ، بجامع الحصول بعد عدمه ، ومن هذا القبيل قولهم : بلغه الخبر ، قال - تعالى :
لأنذركم به ومن بلغ في سورة الأنعام .
[ ص: 261 ] والنبأ الخبر وقد تقدم في قوله - تعالى :
ولقد جاءك من نبأ المرسلين في سورة الأنعام .
وقوم
نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله - تعالى :
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه في سورة الأعراف .
ونوح تقدم ذكره عند قوله - تعالى :
إن الله اصطفى آدم ونوحا في سورة آل عمران .
وعاد تقدم الكلام عليهم عند قوله - تعالى :
وإلى عاد أخاهم هودا في سورة الأعراف .
وكذلك
ثمود ، وقوم
إبراهيم هم الكلدانيون ، وتقدم الكلام على
إبراهيم وعليهم عند قوله - تعالى :
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات في سورة البقرة .
وإضافة ( أصحاب ) إلى
مدين باعتبار إطلاق اسم
مدين على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين ، فكما أن
مدين اسم للقبيلة كما في قوله - تعالى :
وإلى مدين أخاهم شعيبا كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة . وقد تقدم ذكر
مدين عند قوله :
وإلى مدين أخاهم شعيبا في الأعراف .
والمؤتفكات عطف على أصحاب مدين ، أي نبأ المؤتفكات ، وهو جمع مؤتفكة : اسم فاعل من الائتفاك وهو الانقلاب . أي القرى التي انقلبت والمراد بها : قرى صغيرة كانت مساكن قوم
لوط وهي :
سدوم ، وعمورة ، وأدمة ، وصبويم ، وكانت قرى متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها . وكانت في جهات
الأردن حول
البحر الميت ، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم ، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة .
وجملة
أتتهم رسلهم تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله :
نبأ الذين من قبلهم أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحق .
وجملة
فما كان الله ليظلمهم تفريع على جملة
أتتهم رسلهم ، والمفرع هو مجموع الجملة إلى قوله : ( يظلمون ) لأن الذي تفرع على إتيان الرسل أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، والمكابرة ، والتكذيب للرسل ، وصم الآذان عن الحق ، فأخذهم
[ ص: 262 ] الله بذلك ، ولكن نظم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذ ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماما بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتى جعل ذلك كأنه هو المفرع وجعل المفرع بحسب المعنى في صورة الاستدراك .
ونفي الظلم عن الله - تعالى - بأبلغ وجه ، وهو النفي المقترن بلام الجحود بعد فعل الكون المنفي ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله - تعالى :
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج في سورة العقود .
وأثبت ظلمهم أنفسهم لهم بأبلغ وجه ؛ إذ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي ، الدال على تمكن الظلم منهم منذ زمان مضى ، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر ، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية .