لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون .
افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأن مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلا وتفريعا . فلما كان قعود المنافقين عن الجهاد مسببا على كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم ، كان المؤمنون على الضد من ذلك . وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأن تعلقهم به واتباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرهم ، فقيل
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا
وقوله :
بأموالهم وأنفسهم مقابل قوله :
استأذنك أولوا الطول منهم
وقوله :
وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون مقابل قوله :
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما تقدم .
وفي حرف الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسول كقوله :
فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
وقد مضى الكلام على
الجهاد بالأموال عند قوله - تعالى - :
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
وفي قوله :
والذين آمنوا معه تعريض بأن الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين .
[ ص: 291 ] و ( معه ) في موضع الحال من ( الذين ) لتدل على أنهم أتباع له في كل حال وفي كل أمر ، فإيمانهم معه لأنهم آمنوا به عند دعوته إياهم ، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه ، وفيه إشارة إلى أن الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته .
وعطفت جملة
وأولئك لهم الخيرات على جملة ( جاهدوا ) ولم تفصل مع جواز الفصل ليدل بالعطف على أنها خبر عن الذين آمنوا ، أي على أنها من أوصافهم وأحوالهم لأن تلك أدل على تمكن مضمونها فيهم من أن يؤتى بها مستأنفة كأنها إخبار مستأنف .
والإتيان باسم الإشارة لإفادة أن استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم .
والخيرات جمع خير على غير قياس . فهو مما جاء على صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامته مثل سرادقات وحمامات .
وجعله كثير من اللغويين جمع ( خيرة ) بتخفيف الياء مخفف ( خيرة ) المشدد الياء التي هي أنثى ( خير ) ، أو هي مؤنث ( خير ) المخفف الياء الذي هو بمعنى أخير . وإنما أنثوا وصف المرأة منه لأنهم لم يريدوا به التفضيل ، وعلى هذا كله يكون خيرات هنا مؤولا بالخصال الخيرة ، وكل ذلك تكلف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر . والمراد منافع الدنيا والآخرة . فاللام فيه للاستغراق . والقول في
وأولئك هم المفلحون كالقول في نظيره في أول سورة البقرة .