ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم
هذا فريق من الأعراب
يظهر الإيمان وينفق في سبيل الله . وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفا من الغزو أو حبا للمحمدة وسلوكا في مسلك الجماعة ، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكنهم من الانقلاب على أعقابهم . وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق ; لأن التقاسيم في المقامات الخطابية والمجادلات تعتمد اختلافا ما في أحوال المقسم ، ولا يعبأ فيها بدخول القسم في قسيمه ، فقوله :
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما هو في التقسيم كقوله :
ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر
ومعنى ( يتخذ ) يعد ويجعل ; لأن اتخذ من أخوات ( جعل ) . والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة بردا . ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا فكذلك ( يتخذ ) هنا .
والمغرم : ما يدفع من المال قهرا وظلما ، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعدون ذلك كالإتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية . ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال قائلهم من
طيء في زمن
أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام :
فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا هلم فإن المشرفي الفـرائض
أي : فرائض الزكاة هي السيف ، أي : يعطون الساعي ضرب السيف بدلا عن الزكاة .
والتربص : الانتظار . والدوائر : جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال . وتقدم الكلام عليها عند قوله - تعالى :
يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة في سورة العقود .
[ ص: 14 ] والباء للسببية كقوله - تعالى :
نتربص به ريب المنون وجعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف . والتقدير : ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سببا لانتظار الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم .
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر . وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل الردة من العرب .
وجملة
عليهم دائرة السوء دعاء عليهم وتحقير ، ولذلك فصلت . والدعاء من الله على خلقه : تكوين وتقدير مشوب بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده . وقد تقدم الكلام عليه عند قوله - تعالى :
فلعنة الله على الكافرين في سورة البقرة .
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة
أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين .
وإضافة " دائرة " إلى " السوء " من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم : عشاء الآخرة . إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء . قال
أبو علي الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه . ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
فكنت كذئب السوء حين رأى دما بصاحبه يوما أحال على الـدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس .
والسوء - بفتح السين - المصدر ، وبضمها الاسم . وقد قرأ الجمهور بفتح السين . وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين . والمعنى واحد .
وجملة
والله سميع عليم تذييل ، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد ، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه .