[ ص: 599 ] وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
إما عطف على قوله ( استكبرتم ) أو على ( كذبتم ) فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على كذبتم من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع : تكذيب وتقتيل وإعراض .
وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية .
وقد حسن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شئونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم . ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على
اليهود ضمير الغيبة .
على أنه يحتمل أن قولهم قلوبنا غلف لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل . والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل .
والغلف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد ، الغلاف مشتق من غلفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له . وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين
قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ؛ ولذلك قال المفسرون إنه مؤذن بمعنى أنها
[ ص: 600 ] لا تعي ما تقول ولو كان لوعته وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى
بل لعنهم الله بكفرهم أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه .
وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون غلف جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل . وقوله
بل لعنهم الله بكفرهم تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبيء - صلى الله عليه وسلم - فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول ، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا
الجبرية .
وقوله
فقليلا ما يؤمنون تفريع على ( لعنهم ) و ( قليلا ) صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون ( قليلا ) صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون .
وقليل يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبيء - صلى الله عليه وسلم - مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوة
موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع
بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة . ويجوز أن يكون ( قليلا ) هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال
أبو كبير الهذلي :
قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أراد أنه لا يتشكى ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16735عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض
نصيبين كثيرة العقارب قليلة الأقارب ؛ أراد عديمة الأقارب ويقولون فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال
[ ص: 601 ] فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون ما مصدرية والوجهان أشار إليهما في الكشاف باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى
أإله مع الله قليلا ما تذكرون في سورة النمل فقال : والمعنى نفي التذكير . والقلة تستعمل في معنى النفي وكأن وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له كيف وخطابهم بقوله
أإله مع الله المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك .