[ ص: 300 ] قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ، إذ المقصود من النظر المأمور به هنالك النظر للاستدلال على
إثبات الوحدانية ، فإن جحودهم إياها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله : إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك ، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده - تعالى - بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين . والمراد بـ الناس في هذا الخطاب المشركون من أهل
مكة ، أو جميع أمة الدعوة الذين لما يستجيبوا للدعوة .
و ( في ) من قوله : ( في شك ) للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيها لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة .
وعلق الظرف بذات الدين ، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته .
و من في قوله : من ديني للابتداء المجازي ، أي شك آت من ديني . وهو ابتداء يئول إلى معنى السببية ، أي إن كنتم شاكين شكا سببه ديني ، أي يتعلق بحقيته ; لأن الشك يحمل في كل مقام على ما يناسبه ، كقوله :
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك . وقد تقدم آنفا . وقوله :
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ ص: 301 ] والشك في الدين هو الشك في كونه حقا ، وكونه من عند الله . وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه ، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لما شكوا في حقيته .
وجملة
فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى . فتقدير الجواب : فأنا على يقين من فساد دينكم ، فلا أتبعه ، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله .
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام . فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان ، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده ، فيكون في معنى قوله - تعالى :
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ثم قوله :
لكم دينكم ولي دين فيتأتى في هذه الآية غرضان . فيكون المراد بالناس في قوله :
قل يا أيها الناس جميع أمة الدعوة الذين لم يسلموا .
والذين يعبدونهم الأصنام . وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير . ونظير هذا في القرآن كثير .
واختيار صلة التوفي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تحيي وتميت . واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله - تعالى - تعريض بتذكيرهم بأنهم معرضون للموت فيقصرون من طغيانهم .
والجمع بين نفي أن يعبد الأصنام وبين إثبات أنه يعبد الله يقوم مقام صيغة القصر لو قال : فلا أعبد إلا الله ، فوجه العدول عن صيغة القصر : أن شأنها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالظرف المثبت لأنه
[ ص: 302 ] المقصود . وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات ، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أولا عدل عن صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات . فهو إطناب اقتضاه المقام ، كقول
عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل تسيل على حد الظبات نفوسنـا وليست على غير الظبات تسيل
وأمرت عطف على جملة
فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله
وأن أكون متعلق بـ أمرت بحذف حرف الجر . وهو الباء التي هي لتعدية فعل أمرت ، وأن مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية .
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام ، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق . وفي جعل النبيء - صلى الله عليه وسلم - من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به .