فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل
تفريع على قوله :
ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت إلى قوله يستهزئون من ذكر تكذيبهم وعنادهم . يشير هذا التفريع
[ ص: 16 ] إلى أن مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأن من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأسا قد يبعث على ترك دعائهم ، فذلك كله أفيد بفاء التفريع .
والتوقع المستفاد من لعل مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ . ويجوز أن يقدر استفهام حذفت أداته . والتقدير : ألعلك تارك . ويكون الاستفهام مستعملا في النفي للتحذير ، وذلك نظير قوله - تعالى :
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين
والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حدا يوجب توقع الأمر المستفهم عنه حتى أن المتكلم يستفهم عن حصوله . وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهاب همته لدفع الفتور عنه ، فليس في هذا تجويز ترك النبيء - صلى الله عليه وسلم - تبليغ بعض ما يوحى إليه ، وذلك البعض هو ما فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله - تعالى - في آية أخرى
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . والمعنى تحذيره من التأثر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم ، ويستتبع ذلك تأييس المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب ، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه .
وضائق : اسم فاعل من ضاق . وإنما عدل عن أن يقال ( ضيق ) هنا إلى ضائق لمراعاة النظير مع قوله : تارك لأن ذلك أحسن فصاحة . ولأن ضائق لا دلالة فيه على تمكن وصف الضيق من صدره بخلاف ضيق ، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف ، وإيماء إلى أن أقصى ما يتوهم توقعه في جانبه - صلى الله عليه وسلم - هو ضيق قليل يعرض له .
والضيق مستعمل مجازا في الغم والأسف ، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة .
[ ص: 17 ] وضائق عطف على " تارك " فهو وفاعله جملة خبر عن لعلك فيتسلط عليه التفريع .
والباء في به للسببية ، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو أن يقولوا . وأن يقولوا بدل من الضمير . ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله - تعالى :
وأسروا النجوى الذين ظلموا ، فيكون تحذيرا من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا
لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم
إن هذا إلا سحر مبين ، ومن قولهم : ما يحبس العذاب عنا ، بواسطة كون " ضائق " داخلا في تفريع التحذير على قوليهم السابقين . وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكنا في الذهن ، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيها على الاهتمام بالمتعلق لأنه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعد لما في لفظ التفسير من الطول ، فيحصل بذكره بعد بين اسم الفاعل ومرفوعه ، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه ، فحصل الاهتمام وقوي الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن .
ومعظم المفسرين جعلوا ضمير به عائدا إلى بعض ما يوحى إليك . على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره ، أي لا يضيق له صدرك ، وجعلوا أن يقولوا مجرورا بلام التعليل مقدرة . وعليه فالمضارع في قوله : أن يقولوا بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك . واللام متعلقة بـ " ضائق " وليس المعنى عليه بالمتين .
ولولا : للتحضيض . والكنز : المال المكنوز أي المخبوء .
وإنزاله : إتيانه من مكان عال أي من السماء .
وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في
[ ص: 18 ] الماضي ، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سببا في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل .
ومرادهم بـ جاء معه " ملك " أن يجيء ملك من الملائكة شاهدا برسالته ، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أن الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم ، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومدى التأييد الرباني .
وجملة
إنما أنت نذير في موقع العلة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم . فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذير لا وكيل على تحصيل إيمانهم ، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم ترك دعوتهم .
والقصر المستفاد من إنما قصر إضافي ، أي أنت نذير لا موكل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله ، كما دل عليه قوله قبله
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك فهو قصر قلب . وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أن الرسول يأتي بما يسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سندا لتكذيبهم إياه ردا حاصلا من مستتبعات الخطاب ، كما تقدم عند قوله - تعالى :
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الرد على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم .
وجملة
والله على كل شيء وكيل تذييل لقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك إلى هنا ، وهي معطوفة على جملة إنما أنت نذير لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلا على إلجائهم للإيمان . ومما شمله عموم كل شيء أن الله وكيل على قلوب المكذبين وهم المقصود ، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلا وإتيانا للغرض بما هو كالدليل ،
[ ص: 19 ] ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله مطلع على مكر أولئك ، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبيء جهده في التبليغ .