من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة "
فهل أنتم مسلمون " لأن تلك الجملة تفرعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتب لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم ، وإن كانوا إنما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعا لغيرهم فهم مريدون الدنيا ؛ فلذلك حذروا من أن يغتروا بالمتاع العاجل ، وأعلموا بأن وراء ذلك العذاب الدائم ، وأنهم على الباطل ، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية ، أعني جملة
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار إلخ . . . وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول .
ولما كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان ، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن
[ ص: 23 ] حال الكافرين في الدنيا ، وأن لا يحسبوا أيضا أن الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم ، كما قال تعالى :
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل ، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله :
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود . ونظير هذه الآية
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . فالمعنى من كان لا يطلب إلا منافع الحياة وزينتها . وهذا لا يصدر إلا عن الكافرين لأن المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلا لذلك ، فمورد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة .
فأما قوله تعالى :
إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس ، خلافا لما يقتضيه إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كثير من ذلك الترف وتلك الزينة .
وضمير إليهم عائد إلى من الموصولة لأن المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة .
والتوفية : إعطاء الشيء وافيا ، أي كاملا غير منقوص ، أي نجعل أعمالهم في الدنيا وافية ومعنى وفائها أنها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق ، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال
[ ص: 24 ] بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس ، فالمراد أنهم لا ينقصون من لذاتهم التي هيئوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا ، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيرا من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله - تعالى - وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة .
وعدي فعل نوف بحرف إلى لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين .
فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله :
نوف إليهم أعمالهم ، فالتوفية : عدم النقص . وعلقت بالأعمال وهي المساعي . وإضافة الأعمال إلى ضمير هم تفيد أنها الأعمال التي عنوا بها وأعدوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا ندخل عليهم نقصا في ذلك . وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوهم من كلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى ، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك .
وقوله :
وهم فيها لا يبخسون أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجا لهم وإمهالا . فهذا كالتكملة لمعنى جملة (
نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، إذ البخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلما . وفي هذه الآية دليل لما رآه
الأشعري أن
الكفر لا يمنع من نعمة الله .
وضمير فيها يجوز أن يعود إلى الحياة وأن يعود إلى الأعمال
وجملة
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار مستأنفة ، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين ، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة . وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر
[ ص: 25 ] بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله :
أولئك على هدى من ربهم في سورة البقرة .
و " إلا النار " استثناء مفرغ من ليس لهم أي ليس لهم شيء مما يعطاه الناس في الآخرة إلا النار ، وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا .
والحبط : البطلان أي الانعدام .
والمراد بـ ( ما صنعوا ) ما عملوا ، ومن الإحسان في الدنيا كإطعام العفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضا ، ولذلك عبر هنا بـ ( صنعوا ) لأن الإحسان يسمى صنيعة .
وضمير فيها يجوز أن يعود إلى الدنيا المتحدث عنها فيتعلق المجرور بفعل صنعوا . ويجوز أن يعود إلى الآخرة فيتعلق المجرور بفعل بطل ، أي انعدم أثره . ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا ، وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك . وقد قال النبيء - صلى الله عليه وسلم -
لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341954أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا .
والباطل : الشيء الذي يذهب ضياعا وخسرانا .