[ ص: 38 ] أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون
استئناف ، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله :
أولئك يعرضون على ربهم
والموصول في
الذين خسروا أنفسهم مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة ، أي أن بلغكم أن قوما خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبا ، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء ، فلما ضلوا فقد خسروها .
وتقدم الكلام على خسروا أنفسهم عند قوله - تعالى :
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون في سورة الأنعام .
والضلال : خطأ الطريق المقصود .
و
ما كانوا يفترون ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد ، قال - تعالى :
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون
وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها . شبهت أصنامهم بمن سلك طريقا ليلحق بمن استنجد به فضل في طريقه .
وجملة
لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله :
أولئك يعرضون على ربهم لأن ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة .
ولا جرم كلمة جزم ويقين جرت مجرى المثل ، وأحسب أن جرم مشتق مما تنوسي ، وقد اختلف أئمة العربية في تركيبها ، وأظهر أقوالهم أن
[ ص: 39 ] تكون ( لا ) من أول الجملة و ( جرم ) اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بد أي لا بد . ثم يجيء بعدها أن واسمها وخبرها فتكون ( أن ) معمولة لحرف جر محذوف . والتقدير : لا جرم من أن الأمر كذا . ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو : لا جرم لأفعلن . قاله
عمرو بن معدي كرب لأبي بكر .
وعبر عما لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح .
وإنما كانوا أخسرين ، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة . ولأنهم شقوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال - تعالى :
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة .
وضمير هم الأخسرون ضمير فصل يفيد القصر ، وهو قصر ادعائي ; لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة ، فكأنهم انفردوا بالأخسرية .