قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم
نؤمن بما أنزل علينا الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم ، فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة ، وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة ، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير ، أو على شكهم في ذلك ، فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم
[ ص: 614 ] بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم .
وقد قيل إن هذه الآية
رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم
نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وإلى هذا مال
القرطبي والبيضاوي وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى ، وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية . وأيا ما كان فهذه الآية تحدت
اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله
فأتوا بسورة من مثله .
وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم ، وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل .
والكلام في " لكم " مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و " لكم " خبر " كانت " قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول
nindex.php?page=showalam&ids=15102الكميت يمدح
nindex.php?page=showalam&ids=17243هشام بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة :
لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبصه من بين أثرى وأقترا
وعند الله ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن
الدار الآخرة مراد بها الجنة . وانتصب خالصة على الحال من اسم كان ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم كان . ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يئول إلى معنى : خاصة بكم .
وقوله
من دون الناس " دون " في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر ، غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال ، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه فقوله " من دون الناس " توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن
[ ص: 615 ] قوله " خالصة " لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم . والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقوله "
فتمنوا الموت " جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط - وهو أن الدار الآخرة لهم - وجزائه وهو
تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ، ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما قال
عمير بن الحمام رضي الله عنه
جريا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
وارتجز
nindex.php?page=showalam&ids=315جعفر بن أبي طالب يوم غزوة
مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة
مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين :
لكنني أسأل الرحمان مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وجملة "
ولن يتمنوه أبدا " إلى آخره معترضة بين جملة
قل إن كانت لكم الدار الآخرة وبين جملة
قل من كان عدوا لجبريل والكلام موجه إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد
لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم .
وقوله "
بما قدمت أيديهم " يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن
عقائد الجهلة المغرورين ، فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم : "
نؤمن بما أنزل علينا " وقولهم :
نحن أبناء الله وأحباؤه ثم يعترفون بأنهم اجترءوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما
[ ص: 616 ] سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب .
والمراد "
بما قدمت أيديهم " ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام ، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله :
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل . وقيل أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال . قاله
الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدى عظيم .
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي . وقوله
والله عليم بالظالمين خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول
زهير :
فمهما يكتم الله يعلم
وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية ، ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة ، فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله " إلا أماني " أن الأمنية ما يقدر في القلب . وهذا بالنسبة إلى
اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية وهي أيضا من
أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت ، وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية .
ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة ، وعلم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله .
على أن الظاهر أن الآية تشمل
اليهود الذين يأتون عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة ، وجملة
والله عليم بالظالمين في موضع الحال من ضمير الرفع في يتمنوه ، أي : علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت ، والمراد بالظالمين
اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم .