فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ
تفريع على جملة
إني أشهد الله . وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأن مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة
إني أشهد الله بناء على أن هذا من كلام
هود - عليه السلام - .
وعلى هذا الوجه يكون أصل تولوا تتولوا فحذفت إحدى التاءين اختصارا ، فهو مضارع ، وهو خطاب
هود - عليه السلام - لقومه ، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة .
[ ص: 102 ] ويجوز أن تكون فعلا ماضيا ، والواو
لأهل مكة فيكون كالاعتراض في أجزاء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصة
نوح - عليه السلام - بقوله :
أم يقولون افتراه قل إن افتريته الآية . خاطب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأمره بأن يقول لهم قد أبلغتكم . والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة
فقد أبلغتكم من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مقول قول مأمور به محذوف يدل عليه السياق . والتقدير : فقل قد أبلغتكم . وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجه المحتمل معنيين غير متخالفين ، وهو من بديع أساليب الإعجاز ، ولأجله جاء فعل ( تولوا ) بتاء واحدة بخلاف ما في قوله :
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
والتولي : الإعراض . وقد تقدم في قوله - تعالى :
ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ، في سورة النساء .
وجعل جواب شرط التولي قوله :
فقد أبلغتكم مع أن الإبلاغ سابق على التولي المجعول شرطا لأن المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ ، وهو انتفاء تبعة توليهم عنه وبراءته من جرمهم لأنه أدى ما وجب عليه من الإبلاغ ، فإن كان من كلام
هود - عليه السلام - فـ
ما أرسلت به هو ما تقدم ، وإن كان من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أرسل به هو
الموعظة بقصة قوم هود - عليه السلام .
وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولي عليهم ونزول العقاب بهم ، ولذلك عطف
ويستخلف ربي قوما غيركم أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم ، وهذا كقوله - تعالى :
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
وارتفاع ( يستخلف ) في قراءة الكافة لأنه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم . وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام
[ ص: 103 ] المستأنف ليكون مقصودا بذاته لا تبعا للجواب ، فبذلك يكون مقصودا به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال .
وكذلك جملة
ولا تضرونه شيئا والمراد لا تضرون الله بتوليكم شيئا . و ( شيئا ) مصدر مؤكد لفعل ( تضرونه ) المنفي .
وتنكيره للتقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالبا . والمقصود من التأكيد التنصيص على العموم بنفي الضر لأنه نكرة في حيز النفي ، أي فالله يلحق بكم الاستئصال ، وهو أعظم الضر ، ولا تضرونه أقل ضر ؛ فإن المعروف في المقارعات والخصومات أن الغالب المضر بعدوه لا يخلو من أن يلحقه بعض الضر من جراء المقارعة والمحاربة .
وجملة
إن ربي على كل شيء حفيظ تعليل لجملة
ولا تضرونه شيئا فموقع ( إن ) فيها موقع فاء التفريع .
والحفيظ : أصله مبالغة الحافظ ، وهو الذي يضع المحفوظ في حيث لا يناله أحد غير حافظه ، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر .