قال يا قوم أريتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير
جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة ( قال ) وهو الشأن في حكاية المحاورات كما تقدم غير مرة .
وابتداء الجواب بالنداء لقصد التنبيه إلى ما سيقوله اهتماما بشأنه .
وخاطبهم بوصف القومية له للغرض الذي تقدم في قصة
نوح .
والكلام على قوله :
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة كالكلام على نظيرها في قصة
نوح .
وإنما يتجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم ( منه ) على ( رحمة ) هنا وتأخير ( من عنده ) عن ( رحمة ) في قصة
نوح السابقة .
فالجواب لأن ذلك مع ما فيه من التفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل ، هو أيضا أسعد بالبيان في وضوح الدلالة ودفع اللبس . فلما كان مجرور ( من ) الابتدائية ظرفا وهو ( عند ) كان صريحا في وصف الرحمة بصفة تدل على الاعتناء الرباني بها وبمن أوتيها . ولما كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل ( آتاني ) ليكون تقييد الإيتاء بأنه من الله مشيرا إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من
[ ص: 112 ] الله تحصيلا لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه ، فتعين أن يكون المراد إيتاء خاصا ، ولو أوقع منه عقب رحمة لتوهم السامع أن ذلك عوض عن الإضافة ، أي عن أن يقال : وآتاني رحمته ، كقوله :
ولنجعله آية للناس ورحمة منا أي ورحمتنا لهم ، أي لنعظهم ونرحمهم .
وجملة
فمن ينصرني من الله جواب الشرط وهو
إن كنت على بينة
والمعنى إلزام وجدل ، أي إن كنتم تنكرون نبوتي وتوبخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأني على بينة من ربي ، أفترون أني أعدل عن يقيني إلى شككم ، وكيف تتوقعون مني ذلك وأنتم تعلمون أن يقيني بذلك يجعلني خائفا من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني .
والكلام على قوله :
من ينصرني من الله إن عصيته كالكلام على قوله :
من ينصرني من الله إن طردتهم في قصة
نوح .
وفرع على الاستفهام الإنكاري جملة
فما تزيدونني غير تخسير أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إياي إلا سعي في خسراني .
والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجودا لأن ذلك زيادة في أحوال الإنسان ، أي فما يحدث لي إن اتبعتكم وعصيت الله إلا الخسران ، كقوله - تعالى - حكاية عن
نوح - عليه السلام -
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلما كررت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففروا ، وليس المعنى أنهم كانوا يفرون فزادوا في الفرار لأنه لو كان كذلك لقيل هنالك : فلم يزدهم دعائي إلا من فرار ، ولقيل هنا : فما تزيدونني إلا من تخسير .
والتخسير ، مصدر خسر ، إذا جعله خاسرا .