وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ
قوله :
وإلى مدين أخاهم شعيبا إلى قوله : من إله غيره نظير قوله :
وإلى ثمود أخاهم صالحا إلخ .
أمرهم بثلاثة أمور :
أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر .
وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض .
ووسط بينهما الثاني : وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأن إقدامهم عليه كان فاشيا فيهم حتى نسوا ما فيه من قبح وفساد وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان .
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم وهي
خيانة المكيال والميزان . وقد تقدم ذلك في سورة
[ ص: 137 ] الأعراف . وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدر ؛ لأن المكتال مسترسل مستسلم . ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيال والميزان فعززه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما .
وجملة
إني أراكم بخير تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان . والمقصود من
إني أراكم بخير أنكم بخير . وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحق عليهم شكرها . والباء في بخير للملابسة .
والخير : حسن الحالة . ويطلق على المال كقوله :
إن ترك خيرا . والأولى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي إنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة . وهذا التعليل يقتضي قبح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه . وهذا حث على وسيلة بقاء النعمة .
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذابا يحل بهم إما يوم القيامة وإما في الدنيا . ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله :
عذاب يوم محيط . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان واهبها .
و ( محيط ) وصف ليوم على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه .
وإعادة النداء في جملة
ويا قوم أوفوا المكيال لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها ، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان . وهذا الأمر تأكيد للنهي عن نقصهما . والشيء يؤكد بنفي ضده ، كقوله - تعالى :
وأضل فرعون قومه وما هدى . لزيادة الترغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده .
والباء في قوله : بالقسط للملابسة . وهو متعلق بأوفوا فيفيد أن الإيفاء
[ ص: 138 ] يلابسه القسط ، أي العدل تعليلا للأمر به ؛ لأن العدل معروف حسن ، وتنبيها على أن ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر .
والقسط تقدم في قوله - تعالى :
قائما بالقسط في آل عمران .
والبخس : النقص . وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا . وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص . لأن التطفيف من بخس الناس في أشيائهم ، وتعدية ( تبخسوا ) إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا .
والعثي - بالياء - من باب سعى ورمى ورضي ، وبالواو كدعا ، هو : الفساد . ولذلك فقوله : ( مفسدين ) حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد .
والمراد : النهي عن الفساد كله ، كما يدل عليه قوله : ( في الأرض ) المقصود منه تعميم أماكن الفساد .
والفساد تقدم في قوله تعالى
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض في أول سورة البقرة .
وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العام ، وبه حصلت خمسة مؤكدات : بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص ، ثم بالتعميم بعد التخصيص ، ثم بزيادة التعميم ، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان ، ثم بتأكيده بالمؤكد اللفظي .
وسلك في نهيهم عن الفساد
مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوع من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف . ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس . ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كله . وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال .
[ ص: 139 ] وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل .
ولفظ ( بقية ) كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي .
فأما كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمة في أمن من توثب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341516إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرضة للابتزاز والزوال . وأيضا فلأن نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال
ابن عطاء الله : "
من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها " .
وأما كونه أخرويا فلأن نهي الله عنها مقارن للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله - تعالى :
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .
على أن لفظ البقية يتحمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير والبركة لأنه لا يبقى إلا ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت البقية على الشيء النفيس المبارك كما في قوله - تعالى :
فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ،
[ ص: 140 ] وقوله :
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض وقال
عمرو بن معديكرب أو
رويشد الطائي :
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكـم فما علي بذنب منكم فوت
قال
المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم .
وفي كلمة البقية معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكف عن القتال : ابقوا علينا ، ويقولون " البقية البقية " بالنصب على الإغراء ، قال
الأعشى :
قالوا البقية - والهندي يحصدهم - - ولا بقية إلا الثار - وانكشفوا
وقال
مسور بن زيادة الحارثي :
أذكر بالبقيا على من أصابني وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيئة العاقبة ، فيكون تعريضا بوعيد الاستئصال . وكل هذه المعاني صالحة هنا . ولعل كلام
شعيب - عليه السلام - قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة .
وإضافة ( بقية ) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقا إضافة تشريف وتيمن . وهي إضافة على معنى اللام لأن البقية من فضله أو مما أمر به .
ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ؛ لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلا إذا صدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيرا لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيرا لهم ، أي لا تكون البقية خيرا إلا للمؤمنين .
[ ص: 141 ] وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتصاف بالفعل في زمان الحال تقريبا لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالا بإيمانهم لئلا يفجأهم العذاب فيفوت التدارك .
وجملة
وما أنا عليكم بحفيظ في موضع الحال من ضمير اعبدوا ونظائره ، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله .
والحفيظ : المجبر ، كقوله :
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وتقدم عند قوله - تعالى :
وما جعلناك عليهم حفيظا في سورة الأنعام . والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزوا من الأمر . وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال .