قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمنك وما أنت علينا بعزيز
الفقه : الفهم . وتقدم عند قوله - تعالى :
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا في سورة النساء ، وقوله :
انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون في سورة الأنعام .
ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر وقوله عن
اليهود وقالوا قلوبنا غلف . ويجوز أن يكون المراد ما نتعقله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون ، كما حكى الله عن غيرهم بقوله :
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ، وليس المراد عدم فهم كلامه ؛ لأن
شعيبا - عليه السلام - كان مقوالا فصيحا ، ووصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه خطيب الأنبياء .
فالمعنى : أنك تقول ما لا نصدق به . وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم
ولولا رهطك لرجمناك ، ولذلك عطفوا عليه
وإنا لنراك فينا ضعيفا أي وإنك فينا لضعيف ، أي غير ذي قوة ولا منعة . فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذاه وذلك مما يرى لأنه ترى دلائله وسماته .
وذكر فعل الرؤية هنا للتحقيق ، كما تقدم في قوله - تعالى :
ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بحيث نزلوه منزلة من
[ ص: 149 ] يظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية . وأكدوه بإن ولام الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه ، أو من ينكر ذلك . وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول
حجل بن نضلة :
إن بني عمك فيهم رماح
ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة
حميرية فركبوا منه أن
شعيبا - عليه السلام - كان أعمى ، وتطرقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء ، وهو بناء على أوهام . ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأولين ما فيه أن شعيبا - عليه السلام - كان أعمى .
وعطفوا على هذا قولهم
ولولا رهطك لرجمناك وهو المقصود مما مهد إليه من المقدمات ، أي لا يصدنا عن رجمك شيء إلا مكان رهطك فينا ؛ لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا .
والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد به القرابة الأدنون لأنهم لا يكونون كثيرا ، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة ، ولم يقولوا قومك ؛ لأن قومه قد نبذوه . وكان رهط
شعيب - عليه السلام - من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقروهم بكف الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته . ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم . على أن قرابته ما هم إلا عدد قليل لا يخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنهم من المخلصين لدينهم .
فالخبر المحذوف بعد لولا يقدر بما يدل على معنى الكرامة بقرينة قولهم
وما أنت علينا بعزيز وقوله :
أرهطي أعز عليكم من الله ، فلما نفوا أن يكون عزيزا وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير ، فالتقدير : ولولا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك .
[ ص: 150 ] والرجم : القتل بالحجارة رميا ، وهو قتلة حقارة وخزي . وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم .
وجملة
وما أنت علينا بعزيز مؤكدة لمضمون
ولولا رهطك لرجمناك لأنه إذا انتفى كونه قويا في نفوسهم تعين أن كفهم عن رجمه مع استحقاقه إياه في اعتقادهم ما كان إلا لأجل إكرامهم رهطه لا للخوف منهم .
وإنما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أن حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا تعطف لأنها مع إفادتها تأكيد مضمون التي قبلها قد أفادت أيضا حكما يخص المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة
ما نفقه كثيرا مما تقول والجمل بعدها .
والعزة : القوة والشدة والغلبة . والعزيز : وصف منه ، وتعديته بحرف ( على ) لما فيه من معنى الشدة والوقع على النفس كقوله - تعالى :
عزيز عليه ما عنتم ، أي شديد على نفسه ، فمعنى
وما أنت علينا بعزيز أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتد على نفوسنا ، أي لأنك هين علينا ومحقر عندنا وليس لك من ينصرك منا . وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبة ذاته إذ لا يغلب واحد جماعة ، وإنما عزته بقومه وقبيلته ، كما قال
الأعشى :
وإنما العزة للكاثر
فمعنى
وما أنت علينا بعزيز أنك لا تستطيع غلبتنا .
وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه . وهذه معان جد دقيقة وإيجاز جد بديع .
وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله :
وما أنت علينا بعزيز بمفيد تخصيصا ولا تقويا .