ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون
كلام جامع وهو تزييل للسورة مؤذن بختامها ، فهو من براعة المقطع . والواو عاطفة كلاما على كلام ، أو واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير .
واللام في لله للملك وهو ملك إحاطة العلم ، أي
لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض . وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وعدوا من النعيم المغيب عنهم ، ونذارة المشركين بما توعدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة .
وتقديم المجرورين في
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض ؛ لأن ذلك مما لا يشاركه فيه أحد . وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله ، وهو تعريض
[ ص: 195 ] بفساد آراء الذين عبدوا غيره ؛ لأن من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد ، ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة .
ومعنى إرجاع الأمر إليه : أن أمر التدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله ، أي إلى علمه وقدرته ، وإن حسب الناس وهيأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد ، وكثيرا ما اعتز العزيز بعزته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب ، وربما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة .
والتعريف في الأمر تعريف الجنس فيعم الأمور ، وتأكيد الأمر بـ كله للتنصيص على العموم .
وقرأ من عدا
نافعا يرجع ببناء الفعل بصيغة النائب ، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله . وقرأه
نافع بصيغة الفاعل على أن يكون الأمر هو فاعل الرجوع ، أي يرجع هو إلى الله .
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصرف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به ، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجول الباحث عن مكان يستقر به ثم إيوائه إلى المقر اللائق به ورجوعه إليه ، فهي تمثيلية مكنية رمز إليها بفعل يرجع وتعديته بـ إليه .
وتفريع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبادة الله والتوكل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر ؛ لأن
الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكل عليه في كل مهم . وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكلوا على شفاعة الآلهة ونفعها . ويتضمن أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالدوام على العبادة والتوكل .
[ ص: 196 ] والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكل عليه دون غيره بقرينة
وإليه يرجع الأمر كله ، وبقرينة التفريع لأن الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكل إلى غيره ، فلذلك لم يؤت بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما .
وجملة وما ربك بغافل عما تعملون فذلكة جامعة ، فهو تذييل لما تقدم . والواو فيه كالواو في قوله : ولله غيب السماوات والأرض فإن عدم غفلته عن أي عمل أنه يعطي كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ولذلك علق وصف الغافل بالعمل ولم يعلق بالذوات نحو : بغافل عنكم ، إيماء إلى أن على العمل جزاء .
وقرأ
نافع ،
وابن عامر ،
وحفص عن
عاصم ،
وأبو جعفر ،
ويعقوب عما تعملون - بتاء فوقية - خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والناس معه في الخطاب . وقرأ من عداهم بالمثناة التحتية على أن يعود الضمير إلى الكفار فهو تسلية للنبي - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للمشركين .