قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين
فصل جملة
قال قائل جار على طريقة المقاولات والمحاورات ، كما تقدم في قوله - تعالى :
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنه منهم .
والعدول عن اسمه العلم إلى التنكير والوصفية لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنما المهم أنه من جماعتهم ، وتجنبا لما في اسمه العلم من الثقل
[ ص: 225 ] اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه . قيل : إنه (
يهوذا ) وقيل (
شمعون ) وقيل (
روبين ) ، والذي في سفر التكوين من التوراة أنه (
راوبين ) صدهم عن قتله وأن (
يهوذا ) دل عليه السيارة كما في الإصحاح 37 . وعادة القرآن أن لا يذكر إلا اسم المقصود من القصة دون أسماء الذين شملتهم ، مثل قوله :
وقال رجل مؤمن من آل فرعون .
والإلقاء : الرمي .
والغيابات : جمع غيابة ، وهي ما غاب عن البصر من شيء . فيقال : غيابة الجب وغيابة القبر والمراد قعر الجب .
والجب : البئر التي تحفر ولا تطوى .
وقرأ
نافع ،
وأبو جعفر " غيابات " بالجمع . ومعناه جهات تلك الغيابة ، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم ، كقوله - تعالى :
أو كظلمات في بحر لجي وقرأ الباقون
في غيابة الجب بالإفراد .
والتعريف في الجب تعريف العهد الذهني ، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق . وهو في المعنى كالنكرة .
فلعلهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم ، وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها ، وأحسب أنها كانت ينصب إليها ماء السيول ، وأنها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أن إلقاءه في الجب لا يهشم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه .
و ( يلتقطه ) جواب الأمر في قوله : وألقوه . والتقدير : إن تلقوه يلتقطه . والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أن ما أشار به
[ ص: 226 ] القائل من إلقاء
يوسف - عليه السلام - في غيابة جب هو أمثل مما أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنه يحصل به
إبعاد يوسف - عليه السلام - عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضر الإعدام
بيوسف - عليه السلام - ؛ فإن التقاط السيارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده ؛ لأنه إذا التقطه السيارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد .
والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق ، واستعير لأخذ شيء مضاع .
والسيارة : الجماعة الموصوفة بحالة السير وكثرته ، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاحة والبحارة .
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنهم علموا أن الطريق لا تخلو من قوافل بين
الشام ومصر للتجارة والميرة .
وجملة
إن كنتم فاعلين شرط حذف جوابه لدلالة وألقوه ، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجب ولا تقتلوه .
وفيه تعريض بزيادة التريث فيما أضمروه لعلهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو ( إن ) إيماء إلى أنه لا ينبغي الجزم به ، فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التقوى ، وقد علموا أن السيارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء ؛ لأنها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر . وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط .