[ ص: 233 ] فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون
تفريع حكاية الذهاب به والعزم على إلقائه في الجب على حكاية المحاورة بين
يعقوب - عليه السلام - وبنيه في محاولة الخروج
بيوسف - عليه السلام - إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على
يعقوب - عليه السلام - حتى أقنعوه فأذن
ليوسف - عليه السلام - بالخروج معهم ، وهو إيجاز .
والمعنى : فلما أجابهم
يعقوب - عليه السلام - إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب .
وفعل " أجمع " يتعدى إلى المفعول بنفسه . ومعناه : صمم على الفعل ، فقوله : أن يجعلوه هو مفعول ( وأجمعوا ) .
وجواب " لما " محذوف دل عليه " أن يجعلوه في غيابات الجب " ، والتقدير : جعلوه في الجب . ومثله كثير في القرآن . وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللفظ لظهور المعنى .
وجملة
وأوحينا إليه معطوفة على جملة
وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب ؛ لأن هذا الموحى من مهم عبر القصة .
وقيل : الواو مزيدة وجملة ( أوحينا ) هو جواب " لما " ، وقد قيل بمثل ذلك في قول
امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
. . . البيت .
وقيل به في قوله - تعالى :
فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم الآية ، وفي جميع ذلك نظر .
[ ص: 234 ] والضمير في قوله : ( إليه ) عائد إلى
يوسف - عليه السلام - في قول أكثر المفسرين مقتصرين عليه . وذكر
ابن عطية أنه قيل الضمير عائد إلى
يعقوب - عليه السلام - .
وجملة
لتنبئنهم بأمرهم هذا بيان لجملة أوحينا . وأكدت باللام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال . فعلى الأول فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس
يوسف - عليه السلام - حين كيدهم له ، ويحتمل أنه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا
ليوسف - عليه السلام - قبل النبوة رحمة من الله ليزيل عنه كربه ، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له ، وإيذان بأنه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة ، وبأنه سينبئ في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية ، وذلك يستلزم نجاته وتمكنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكن منهم وأمن من شرهم .
ومعنى بأمرهم : بفعلهم العظيم في الإساءة .
وجملة
وهم لا يشعرون في موضع الحال ، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها ، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله - تعالى :
قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه الآيتين .
وعلى احتمال عود ضمير إليه على
يعقوب - عليه السلام - فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك ، والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة
فلما ذهبوا به إلى آخرها
وأوحينا إليه قبل ذلك . و (
لتنبئنهم ) أمر ، أي أوحينا إليه نبئهم بأمرهم هذا ، أي أشعرهم بما كادوا
ليوسف [ ص: 235 ] - عليه السلام - ، إشعارا بالتعريض ، وذلك في قوله :
وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون .
وجملة
وهم لا يشعرون على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين ، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك .
وهذا الجب الذي ألقي فيه
يوسف - عليه السلام - وقع في التوراة أنه في أرض (
دوثان ) ،
ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا . والمراد : أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع . ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل . واتفق واصفو الجب على أنه بين (
بانياس ) و (
طبرية ) . وأنه على اثني عشر ميلا من
طبرية مما يلي
دمشق ، وأنه قرب قرية يقال لها (
سنجل ) أو (
سنجيل ) . قال
قدامة : هي طريق البريد بين
بعلبك وطبرية .
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين
الشام ومصر . وكانت تجتاز
الأردن تحت بحيرة
طبرية وتمر على (
دوثان ) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق ، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في
دوثان . وجب
يوسف معروف بين
طبرية وصفد ، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن .