[ ص: 42 ] وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون
انتقال إلى حكاية حال
يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه ، فالتولي حاصل عقب المحاورة . و تولى : انصرف ، وهو انصراف غضب .
ولما كان التولي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أحواله تجدد أسفه على
يوسف عليه السلام فقال (
يا أسفى على يوسف ) ، والأسف : أشد الحزن ، أسف كحزن .
ونداء الأسف مجاز . نزل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه ; لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف .
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفا .
وإنما ذكر القرآن تحسره على
يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين ; لأن ذلك التحسر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكره أن
يعقوب عليه السلام لم يتحسر قط إلا على
يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها .
[ ص: 43 ] وكذلك عطف جملة وابيضت عيناه من الحزن إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة . فكل من التولي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلا أنها مختلفة الأزمان .
وابيضاض العينين : ضعف البصر . وظاهرة أنه تبدل لون سوادهما من الهزال . ولذلك عبر بـ ابيضت عيناه دون عميت عيناه .
و ( من ) في قوله (
من الحزن ) سببية . والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين . وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال
الحارث بن حلزة .
قبل ما اليوم بيضت بعيون النـ ـاس فيها تغيض وإباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر ، فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ; على أن البكاء من الحزن أمر جبلي فلا يستغرب صدوره من نبي ، أو أن التصبر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب . وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على
موسى عليه السلام أربعين يوما ، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع . وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية .
والكظيم : مبالغة للكاظم . والكظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون ، كقوله وهو مكظوم .
وجملة (
قالوا تالله ) محاورة بنيه إياه عندما سمعوا قوله (
يا أسفى على يوسف ) وقد قالها في خلوته فسمعوها .
والتاء حرف قسم ، وهي عوض عن واو القسم . قال في الكشاف في سورة الأنبياء : التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب . وسلمه في مغني اللبيب ،
[ ص: 44 ] وفسره
الطيبي بأن المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع ; لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ، ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة ; لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم .
وجواب القسم هو (
تفتأ تذكر يوسف ) باعتبار ما بعده من الغاية ; لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة
يوسف عليه السلام وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر
يوسف . وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتا لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا .
ومعنى ( تفتأ ) تفتر . يقال : فتئ من باب علم . إذا فتر عن الشيء . والمعنى : لا تفتر في حال كونك تذكر
يوسف . ولملازمة النفي لهذا الفعل ولزوم حال يعقب فاعله صار شبيها بالأفعال الناقصة .
و ( حرضا ) مصدر هو شدة المرض المشفي على الهلاك ، وهو وصف بالمصدر ، أي حتى تكون حرضا ، أي باليا لا شعور لك . ومقصودهم الإنكار عليه صدا له عن مداومة ذكر
يوسف عليه السلام على لسانه ; لأن ذكره باللسان يفضي إلى دوام حضوره في ذهنه .
وفي جعلهم الغاية الحرض أو الهلاك تعريض بأنه يذكر أمرا لا طمع في تداركه ، فأجابهم بأن ذكره
يوسف عليه السلام موجه إلى الله دعاء بأن يرده عليه . فقوله يا أسفى على
يوسف تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه برد
يوسف عليه السلام إليه لأنه كان يعلم أن
يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة ، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة وهي المسماة بالإلهام عند الصوفية .
فجملة إنما أشكو بثي وحزني إلى الله مفيدة قصر شكواه على التعلق باسم الله ، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن ، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة ; لأن الدعاء عبادة . وصار ابيضاض عينيه الناشئ عن التذكر
[ ص: 45 ] الناشئ عن الشكوى أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مثل تفطر أقدام النبيء صلى الله عليه وسلم من قيام الليل .
والبث : الهم الشديد ، وهو التفكير في الشيء المسيء . والحزن : الأسف على فائت . فبين الهم والحزن العموم والخصوص الوجهي ، وقد اجتمعا
ليعقوب عليه السلام لأنه كان مهتما بالتفكير في مصير
يوسف عليه السلام وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفا على فراقه .
وقد أعقب كلامه بقوله
وأعلم من الله ما لا تعلمون لينبههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلموه أو يلوموه ، أي أنا أعلم علما من عند الله علمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوءة . وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة
نوح عليه السلام من سورة الأعراف فهي من كلام النبوءة الأولى . وحكي مثلها عن
شعيب عليه السلام في سورة الشعراء .
وفي هذا تعريض برد تعريضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالا سيقع .
ثم صرح لهم بشيء مما يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب
يوسف عليه السلام حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه .
فجملة (
يا بني اذهبوا ) مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن في قوله
وأعلم من الله ما لا تعلمون ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون (
يحسبون كل صيحة عليهم ) .
والتحسس بالحاء المهملة : شدة التطلب والتعرف ، وهو أعم من التجسس بالجيم فهو التطلب مع اختفاء وتستر .
والروح بفتح الراء : النفس بفتح الفاء استعير لكشف الكرب ; لأن الكرب والهم يطلق عليهما الغم وضيق النفس وضيق الصدر ، فكذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك ، ومنه استعارة قولهم : تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل .
[ ص: 46 ] وفي خطابهم بوصف البنوة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال .
وجملة
إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون تعليل للنهي عن اليأس ، فموقع إن التعليل . والمعنى : لا تيأسوا من الظفر
بيوسف عليه السلام معتلين بطول مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة . فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها ، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك ، فحقه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره ، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها .
وقرأ
البزي بخلف عنه ( ولا تأيسوا ) و ( إنه لا يأيس ) بتقديم الهمزة على الياء الثانية ، وتقدم في قوله ( فلما استيئسوا منه ) .