أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب
عطف على جملة
وإما نرينك بعض الذي نعدهم المتعلقة بجملة
لكل أجل كتاب . عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبيء - صلى الله عليه وسلم - قد لاحت ، وتباشير ظفره قد طلعت ليتدبروا في
[ ص: 171 ] أمرهم ، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغير واقع بهم . وهي أيضا
بشارة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه ، فهي أيضا احتراس من أن ييأس النبيء - صلى الله عليه وسلم - من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدين .
والاستفهام في أولم يروا إنكاري ، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير ( نعدهم ) ، والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض ، أي : سكانها .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية . والمراد : رؤية آثار ذلك النقص ، ويجوز أن تكون علمية ، أي : ألم يعلموا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص .
وتعريف " الأرض " تعريف الجنس ، أي : نأتي أية أرض من أرضي الأمم . وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازا ، كما في قوله تعالى
واسأل القرية بقرينة تعلق فعل النقص بها ; لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها . وهذا باب قوله تعالى
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأرض أرض الكافرين من
قريش فيكون التعريف للعهد ، وتكون الرؤية بصرية ، ويكون ذلك إيقاظا لهم كما غلب عليه المسلمون من أرض العدو فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام . وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت
بالمدينة وهو الذي حمل فريقا على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما
مكة [ ص: 172 ] والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب ،
فمكة طرفها من جهة اليمن ،
والمدينة طرف البلاد من جهة
الشام ، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت
المدينة ثم تمحضت
مكة له بعد يوم الفتح .
وأيا ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون ، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء
أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ، أي : ما هم الغالبون . وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم .
وجملة
والله يحكم لا معقب لحكمه عطف على جملة أولم يروا مؤكدة للمقصود منها ، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه ، فاستدل على ذلك بجملة
وإما نرينك بعض الذي نعدهم ثم بجملة
أولم يروا أنا نأتي الأرض ثم بجملة
والله يحكم ; لأن المعنى : أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر .
ولذلك فجملة
لا معقب لحكمه في موضع الحال ، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى ، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه . وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد .
والمعقب : الذي يعقب عملا فيبطله ، مشتق من العقب ، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة . وتقدم عند قوله تعالى
له معقبات في هذه السورة ، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل .
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله
أنا نأتي الأرض لتربية المهابة ، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية
[ ص: 173 ] والوحدانية المقتضية عدم المنازع ، وأيضا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل .
وجملة
وهو سريع الحساب يجوز أن تكون عطفا على جملة
والله يحكم فتكون دليلا رابعا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه ; ويجوز أن يكون عطفا على جملة الحال . والمعنى : يحكم غير منقوص حكمه وسريعا حسابه . ومآل التقديرين واحد .
والحساب : كناية عن الجزاء .
والسرعة : العجلة ، وهي في كل شيء بحسبه .