الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة
وجعلوا لله أندادا الآية ، وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة الآية ، وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها ، وبالضد حال الذين شكروا عليها ، وليزداد الشاكرون شكرا ، فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية ، كما يدل عليه تعقيبه بقوله
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، فجيء في هذه الآية بنعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى .
[ ص: 235 ] وافتتح الكلام باسم الموجد ; لأن تعيينه هو الغرض الأهم ، وأخبر عنه بالموصول ; لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له ، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئا ، كما قال
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ،
فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقها وتمهيد للنعم المودعة فيها ، فإنزال الماء من السماء إلى الأرض ، وإخراج الثمرات من الأرض ، والبحار والأنهار من الأرض ، والشمس والقمر من السماء ، والليل والنهار من السماء ومن الأرض ، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت .
والرزق : القوت ، والتسخير : حقيقته التذليل والتطويع ، وهو مجاز في جعل السيئ قابلا لتصرف غيره فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره في سورة الأعراف ، وقوله
لتجري في البحر هو علة تسخير صنعها .
ومعنى تسخير الفلك : تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع .
وقوله ( بأمره ) متعلق بـ ( تجري ) .
والأمر : هنا الإذن ، أي : تيسير جريها في البحر ، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء ، وهذا كقوله
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ، وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله
ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ، وقد بينته آية
ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره الآية .
وتسخير الأنهار : خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقي منه من تمر عليه وينزل على ضفافه
[ ص: 236 ] حيث تستقر مياهه ، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها .
وتسخير الشمس والقمر : خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما ، وضبط أوقاتهم بسيرهما .
ومعنى دائبين دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك .
والفلك : جمع لفظه كلفظ مفرده ، وقد تقدم عند قوله تعالى
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس في سورة البقرة .
ومعنى
وآتاكم من كل ما سألتموه أعطاكم بعضا من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها ، وذلك مثل توالد الأنعام ، وإخراج الثمار والحب ، ودفع العوادي عن جميع ذلك : كدفع الأمراض عن الأنعام ، ودفع الجوائح عن الثمار والحب .
فجملة
وآتاكم من كل ما سألتموه تعميم بعد خصوص ، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحكم يعلمها الله ولا يعلمونها
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان ، وبهذا يتبين تفسير الآية .
وجملة
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم ، تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم .
فمعنى إن تعدوا إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه ، وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم ، كنعمة النفس ، ونعمة الحواس ، ونعمة هضم الطعام والشراب ، ونعمة الدورة الدموية ، ونعمة الصحة ، وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره .
[ ص: 237 ] والإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحصا اسما للعدد ، وهو منقول من الحصى ، وهو صغار الحجارة ; لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للغلط .
وجملة
إن الإنسان لظلوم كفار تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كفرا ، فلذلك فصلت عنها .
والمراد بـ الإنسان صنف منه ، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها ، فالإنسان هو المشرك ، مثل الذي في قوله تعالى
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ، وهو استعمال كثير في القرآن .
وصيغتا المبالغة في ظلوم كفار اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئا ، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره .