ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها ، ومنه يتخلص إلى
التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ، ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وسواسه بما يرديهم ، جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة ; فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني ، ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث ، وموعظة وذكرى ، والمراد بالإنسان آدم - عليه السلام - .
والصلصال : الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخار ، إلا أن الفخار هو ما يبس بالطبخ بالنار ; قال تعالى
خلق الإنسان من صلصال كالفخار .
[ ص: 42 ] والحمأ : الطين إذا اسود وكرهت رائحته ، وقوله من حمأ صفة لـ صلصال ، و مسنون صفة لـ حمأ أو لـ صلصال ، وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر . والمسنون : الذي طالت مدة مكثه ، وهو اسم مفعول من فعل سنه ; إذا تركه مدة طويلة تشبه السنة ، وأحسب أن فعل ( سن ) بمعنى ترك شيئا مدة طويلة غير مسموع .
ولعل ( تسنه ) بمعنى تغير من طول المدة أصله مطاوع سنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة ، وقد تقدم قوله تعالى
لم يتسنه في سورة البقرة .
والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذا أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة .
وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن ، وهو يعطي حرارة ضعيفة ، ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفنة حيوانات مثل الدود ، ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفنة الحمى .
وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرت على مادة خلق الإنسان .
وتوكيد الجملة بلام قسم وبحرف ( قد ) لزيادة التحقق تنبيها على أهمية هذا الخلق ، وأنه بهذه الصفة .
وعطف جملة
والجان خلقناه إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين
آدم وجند إبليس . وأكدت جملة والجان خلقناه بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف ، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكدت به جملة
ولقد خلقنا الإنسان الخ .
[ ص: 43 ] وفائدة قوله من قبل أي : من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجان أسبق ; لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة .
والسموم بفتح السين : الريح الحارة ،
فالجن مخلوق من النارية والهوائية ; ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجن ، فكما كون الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان ، كون ريحا حارة وجعل منها الجن ، فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قوية ، والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب .