قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الصراط المستقيم : هو الخير والرشاد .
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبينة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد ، وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي .
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره ، فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن ، كما يكتب في العهود والعقود : هذا ما قاضى عليه فلان فلانا أنه كيت وكيت ، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله إلا عبادك منهم المخلصين لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير ، فتكون جملة إن عبادي ليس لك عليهم سلطان مستأنفة أفادت نفي سلطانه .
والصراط : مستعار للعمل الذي يقصد منه عامله فائدة ، شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه ، أي : هذا هو السنة التي وضعتها
[ ص: 52 ] في الناس وفي غوايتك إياهم ، وهي أنك لا تغوي إلا من اتبعك من الغاوين ، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين .
و مستقيم نعت لـ صراط ، أي : لا اعوجاج فيه ، واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة .
و ( على ) مستعملة في الوجوب المجازي ، وهو الفعل الدائم الذي لا يتخلف كقوله تعالى إن علينا للهدى ، أي : أنا التزمنا الهدى لا نحيد عنه ; لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية .
وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية .
وقرأ الجمهور علي بفتح اللام وفتح الياء على أنها ( على ) اتصلت بها ياء المتكلم ، وقرأه
يعقوب بكسر اللام وضم الياء وتنوينها على أنه وصف من العلو وصف به صراط ، أي : صراط شريف عظيم القدر .
والمعنى أن الله وضع سنة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا ، أي : مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر ، فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال ، وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان ، وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى ، فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله فاتبعوني يحببكم الله .
وإطلاق الغاوين من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة ; لأنه لو كان غاويا بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة ، وقد دل على هذا المعنى تعلق نفي السلطان بجميع العباد ، ثم استثناء من كان غاويا ، فلما كان
سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا علمنا أن ثمة
[ ص: 53 ] وصفا بالغواية هو مهيئ تسلط سلطان الشيطان على موصوفه ، وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل ، أي : بالاستعداد للغواية لا بوقوعها .
فالإضافة في قوله تعالى عبادي للعموم كما هو شأن الجمع المعرف بالإضافة ، والاستثناء حقيقي ولا حيرة في ذلك .
وضمير موعدهم عائد إلى من اتبعك ، والموعد مكان الوعد ، وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيها له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد .
ووجه الشبه تحقق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد ; لأن إخلاف الوعد محذور ، وفي ذلك تمليح بهم ; لأنهم ينكرون البعث والجزاء ، فجعلوا بمنزلة من عين ذلك المكان للإتيان .
وجملة
لها سبعة أبواب مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم .
والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم ; لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بأن تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر ، وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر .
وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر في سورة البقرة .
وجملة لكل باب منهم جزء مقسوم صفة لـ أبواب وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى . وضمير منهم عائد لـ من اتبعك من الغاوين ، أي :
[ ص: 54 ] لكل باب فريق يدخل منه ، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار .
واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلة التطور الذي تكيفت به نفس إبليس من حين أبى من السجود ، وكيف تولد كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عندما صدر منه قوله لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، فكلما حدث في جبلته فصل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه ، فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب .
وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة ، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان ، وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ، ولا بغلبة من الشيطان لخالقه ، فإن ضعفه تجاه عزة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك .