[ ص: 67 ] قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين
الواو في أولم ننهك عطف على كلام
لوط - عليه السلام - جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى
قال ومن ذريتي بعد قوله تعالى
قال إني جاعلك للناس إماما في سورة البقرة .
والاستفهام إنكاري ، والمعطوف هو الإنكار .
و ( العالمين ) الناس ، وتعدية النهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دل عليه المقام ، أي : ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم ، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك ، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قراهم ، و ( العالمين ) تقدم في الفاتحة ، وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم .
وعرض عليهم بناته ظنا أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم ، ولذلك قال
إن كنتم فاعلين .
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته ، وأن قوله ( بناتي ) يجوز أن يراد به بنات صلبه وكن اثنتين أو ثلاثا ، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلا لهم منزلة بناته ; لأن
النبيء كأب لأمته .
وجملة
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه .
[ ص: 68 ] والمخاطب بها
محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبل الله تعالى ، وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير ( قول ) .
وكلمة لعمرك صيغة قسم ، واللام الداخلة على لفظ ( عمر ) لام القسم .
والعمر بفتح العين وسكون الميم أصله لغة في العمر بضم العين ، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفته بالفتح ; لأن القسم كثير الدوران في الكلام ، فهو قسم بحياة المخاطب به ، وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبا ، والتقدير : لعمرك قسمي .
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفا لازما في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللام على معنى القسم ، وقد يستعملونه بغير اللام فحينئذ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما ، كقول
nindex.php?page=showalam&ids=16674عمر بن أبي ربيعة :
عمرك الله كيف يلتقيان
فنصب عمر بنزع الخافض وهو باء القسم ونصب اسم الجلالة على أنه مفعول المصدر ، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله ، أي قولك لله لعمرك تعظيما لله ; لأن القسم باسم أحد تعظيم له ، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم ، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد ( التحيات لله ) أي أقسم عليك بتعظيمك ربك ، هذا ما يظهر لي في توجيه النصب ، وقد خالفت فيه أقوال أهل اللغة بعض مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال .
والسكرة : ذهاب العقل ، مشتقة من السكر بفتح السين وهو السد والغلق ، وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته .
و ( يعمهون ) يتحيرون ولا يهتدون ، وقد تقدم عند قوله تعالى
ويمدهم في طغيانهم يعمهون في سورة البقرة .
[ ص: 69 ] وجملة
فأخذتهم الصيحة مشرقين تفريع على جملة
وقضينا إليه ذلك الأمر .
والصيحة : صعقة في الهواء ، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجيل ، وقد مضى بيانها في سورة هود .
وانتصب ( مشرقين ) على الحال من ضمير الغيبة ، وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس .
وضميرا
عاليها سافلها للمدينة ، وضمير ( عليهم ) عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله .
وجملة
إن في ذلك لآيات للمتوسمين : تذييل .
والآيات : الأدلة ، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدها ، وعلى تعرض المكذبين رسلهم لعقاب شديد .
والإشارة في ذلك إلى جميع ما تضمنته القصة المبدوءة بقوله تعالى
ونبئهم عن ضيف إبراهيم . ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت
إبراهيم عليه السلام كرامة له ، وبشارته بغلام عليم ، وإعلام الله إياه بما سيحل بقوم
لوط كرامة
لإبراهيم عليهما السلام ،
ونصر الله لوطا بالملائكة ، وإنجاء
لوط عليه السلام وآله ، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إياهم ، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة ، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرسل .
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا في سورة البقرة ، وقوله
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه في سورة الأنعام .
والمتوسمون أصحاب التوسم وهو التأمل في السمة ، أي العلامة الدالة على المعلم ، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون ، وهو تعريض بالذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضا بالمشركين
[ ص: 70 ] الذين لم يتعظوا; بأن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها .
ولذلك أعقب الجملة بجملة
وإنها لبسبيل مقيم ، أي المدينة المذكورة آنفا هي بطريق باق يشاهد كثير منكم آثارها في بلاد
فلسطين في طريق تجارتكم إلى
الشام وما حولها ، وهذا كقوله
وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون .
والمقيم : أصله الشخص المستقر في مكانه غير مرتحل ، وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم .
وجملة
إن في ذلك لآية للمؤمنين تذييل ، والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصة مع ما انضم إليها من
التذكير بأن قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المحماة ، وعبر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسمين هم المؤمنون .
وجعل ذلك ( آية ) بالإفراد تفننا ;لأن ( آية ) اسم جنس يصدق بالمتعدد ، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة ، وهو عاقبة المكذبين ، وفي مطاوي تلك الآيات آيات ، والذي في درة التنزيل ، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول ، وإفراده ثانيا في هذه الآية بأن ما قص من حديث
لوط وضيف
إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية ، فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات ، وأما كون قرية
لوط ( بسبيل مقيم ) فهو في جملته آية واحدة ، فتأمل .