كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين .
و ( ما ) موصولة أو مصدرية ، وهي المشبه به .
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاء المأخوذ من فعل
آتيناك سبعا من المثاني ، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين ، شبه إيتاء بعض القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل عليه في شأن المقتسمين ، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى المقتسمين .
ويجوز أن يكون المشبه الإنذار المأخوذ من قوله تعالى
إني أنا النذير المبين ، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون .
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلص من تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى
وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم .
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفس المراد من الضميرين في قوله تعالى
أزواجا منهم ولا تحزن عليهم .
وحرف ( على ) هنا بمعنى لام التعليل كما في قوله تعالى
ولتكبروا الله على ما هداكم وقوله
فكلوا مما أمسكن عليكم ، وقول
علقمة بن شيبان من
بني تيم الله بن ثعلبة :
[ ص: 85 ] ونطاعن الأعداء عن أبنائنـا وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
ولفظ المقتسمين افتعال من قسم إذا جعل شيئا أقساما ، وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل .
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين ، من
قريش وهم ستة عشر رجلا ، سنذكر أسماءهم ، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العلم ، وهو كتاب الإسلام .
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قسموا كتابهم أقساما ، منها ما أظهروه ، ومنها ما أنسوه ، فيكون القرآن مصدرا أطلق بمعناه اللغوي ، أي المقروء من كتبهم ، أو قسموا كتاب الإسلام ، منه ما صدقوا به وهو مما وافق دينهم ، ومنه ما كذبوا به وهو ما خالف ما هم عليه .
وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالا بينه وصفهم بالصلة في قوله تعالى
الذين جعلوا القرآن عضين ، فلا يحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقين المذكورين آنفا .
ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصفات والأحوال لا تجزئة الذات .
و ( القرآن ) هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علما لكتاب الإسلام ، ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل .
و ( عضين ) جمع عضة ، والعضة : الجزء والقطعة من الشيء ، وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفة ، وحذف اللام قصد منه تخفيف الكلمة ; لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها ، فعوضوا عنها حرفا ; لئلا تبقى الكلمة على حرفين ، وجعلوا العوض هاء ; لأنها أسعد الحروف بحالة الوقف ، وجمع ( عضة ) على صيغة جمع المذكر السالم على وجه شاذ .
[ ص: 86 ] وعلى الوجهين المتقدمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب
اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما أنزل إليهم من القرآن ، أطلق على كتابهم القرآن ; لأنه كتاب مقروء ، فأظهروا بعضا وكتموا بعضا ، قال الله تعالى
تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزل على
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم أيضا جعلوا القرآن المنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم - عضين فصدقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوة
عيسى لله تعالى ، فكانوا إذا سألهم المشركون : هل القرآن صدق ؟ قالوا : بعضه صدق وبعضه كذب ، فأشبه اختلافهم اختلاف المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة ، كقولهم أساطير الأولين ، وقول كاهن ، وقول شاعر .
وروي عن
قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي
قريش جمعهم
الوليد بن المغيرة لما جاء وقت الحج فقال : إن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، فانتدب لذلك ستة عشر رجلا فتقاسموا مداخل
مكة وطرقها لينفروا الناس عن الإسلام ، فبعضهم يقول : لا تغتروا بهذا القرآن فهو سحر ، وبعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : كلام مجنون ، وبعضهم يقول : قول كاهن ، وبعضهم يقول : هو أساطير الأولين اكتتبها ، فقد قسموا القرآن أنواعا باعتبار اختلاف أوصافه .
وهؤلاء النفر هم :
nindex.php?page=showalam&ids=15776حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة بن ربيعة ، وأخوه
شيبة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وأخوه
العاص ، وأبو قيس بن الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أمية ، وهلال بن عبد الأسود ، والسائب بن صيفي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الحجاج ، وأمية بن خلف ، وأوس بن المغيرة .
[ ص: 87 ] واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن ، وهذا هو معنى
جعلوا القرآن عضين ، فكان ثاني الوصفين بيانا لأولهما وإنما اختلفت العبارتان للتفنن .
وأن ذم المشبه بهم يقتضي ذم المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالرد والتكذيب .