صفحة جزء
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة

و ( الخيل ) معطوف على والأنعام خلقها ، فالتقدير : وخلق الخيل .

والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان ، والعبرة في كل ، كالقول فيما تقدم من قوله تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء الآية .

والفعل المحذوف يتعلق به لتركبوها وزينة ، أي خلقها الله لتكون مراكب للبشر ، ولولا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم .

وعطف ( وزينة ) بالنصب عطفا على شبه الجملة في لتركبوها ، فجنب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله ; لأن فاعله وفاعل عامله واحد ، فإن عامله فعل ( خلق ) في قوله تعالى والأنعام خلقها إلى قوله تعالى والخيل والبغال فذلك كله مفعول به لفعل ( خلقها ) .

ولا مرية في أن فاعل جعلها زينة هو الله تعالى ; لأن المقصود أنها في ذاتها زينة ، أي خلقها تزين الأرض ، أو زين بها الأرض ، كقوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح .

وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل .

وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصرا على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم .

وقد اقتصر على منة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة ، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعام وتحمل أثقالكم ; لأنهم لم تكن من [ ص: 108 ] عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير ، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد ، والبغال تركب للمشي والغزو ، والحمير تركب للتنقل في القرى ، وشبهها .

وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجة الوداع أنه قال : جئت على حمار أتان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس الحديث .

وكان أبو سيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه :


خلوا السبيل عن أبي سياره وعن مواليه بني فـزاره     حتى يجيز راكبا حمـاره
مستقبل الكعبة يدعو جاره

فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم ، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحرث بالإبل والخيل والبغال والحمير ، وهو مما يفعله المسلمون ، ولا يعرف منكر عليهم ، أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفا للناس من قبل ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا في سورة البقرة ، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم الأحوال عدا ما خصصه الدليل مما في آية الأنعام قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية .

وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ; لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلته ، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - كانوا في حالة اضطرار ، وآية سورة النحل يومئذ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ، ولا أنكره النبيء - صلى الله عليه وسلم - .

كما جاء في الصحيح : أنه أتي فقيل له : أكلت الحمر ، فسكت ، ثم أتي فقيل : أكلت الحمر فسكت ، ثم أتي فقيل : أفنيت الحمر فنادى منادي النبيء - صلى الله [ ص: 109 ] عليه وسلم - أن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر . فأهرقت القدور .

وأن الخيل والبغال والحمير سواء في أن الآية لا تشمل حكم أكلها ، فالمصير في جواز أكلها ومنعه إلى أدلة أخرى .

فأما الخيل والبغال ففي جواز أكلها خلاف قوي بين أهل العلم ، وجمهورهم أباحوا أكلها ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والظاهري ، وروي عن ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وعطاء والزهري والنخعي وابن جبير .

وقال مالك وأبو حنيفة : يحرم أكل لحوم الخيل ، وروي عن ابن عباس واحتج بقوله تعالى لتركبوها وزينة ، ولو كانت مباحة الأكل لامتن بأكلها كما امتن في الأنعام بقوله ومنها تأكلون ، وهو دليل لا ينهض بمفرده ، فيجاب عنه بما قررنا من جريان الكلام على مراعاة عادة المخاطبين به ، وقد ثبتت أحاديث كثيرة أن المسلمين أكلوا لحوم الخيل في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه ، ولكنه كان نادرا في عادتهم .

وعن مالك - رضي الله عنه - رواية بكراهة لحوم الخيل واختار ذلك القرطبي .

وأما الحمير فقد ثبت أكل المسلمين لحومها يوم خيبر ، ثم نهوا عن ذلك كما في الحديث المتقدم ، واختلف في محمل ذلك ، فحمله الجمهور على التحريم لذات الحمير ، وحمله بعضهم على تأويل أنها كانت حمولتهم يومئذ فلو استرسلوا على أكلها لانقطعوا بذلك المكان فآبوا رجالا ، ولم يستطيعوا حمل أمتعتهم ، وهذا رأي فريق من السلف ، وأخذ فريق من السلف بظاهر النهي ; فقالوا بتحريم أكل لحوم الحمر الإنسية ; لأنها مورد النهي ، وأبقوا الوحشية على الإباحة الأصلية ، وهو قول جمهور الأيمة مالك وأبي حنيفة والشافعي - رضي الله عنهم - وغيرهم .

[ ص: 110 ] وفي هذا إثبات حكم تعبدي في التفرقة ، وهو مما لا ينبغي المصير إليه في الاجتهاد إلا بنص لا يقبل التأويل ، كما بيناه في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية .

على أنه لا يعرف في الشريعة أن يحرم صنف إنسي لنوع من الحيوان دون وحشيه .

وأما البغال ; فالجمهور على تحريمها ، فأما من قال بحرمة أكل الخيل ; فلأن البغال صنف مركب من نوعين محرمين ، فتعين أن يكون أكله حراما ، ومن قال بإباحة أكل الخيل فلتغليب تحريم أحد النوعين المركب منهما ، وهو الحمير على تحليل النوع الآخر وهو الخيل ، وعن عطاء أنه رآها حلالا .

والخيل : اسم جمع لا واحد له من لفظه على الأصح ، وقد تقدم عند قوله تعالى والخيل المسومة في سورة آل عمران .

والبغال : جمع بغل ، وهو اسم للذكر ، والأنثى من نوع أمه من الخيل وأبوه من الحمير ، وهو من الأنواع النادرة والمتولدة من نوعين ، وعكسه البرذون ، ومن خصائص البغال عقم أنثاها بحيث لا تلد .

والحمير : جمع تكسير حمار وقد يجمع على أحمرة وعلى حمر ، وهو غالب للذكر من النوع ، وأما الأنثى فأتان ، وقد روعي في الجمع التغليب .

التالي السابق


الخدمات العلمية