هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون استئناف لذكر دليل آخر من مظاهر بديع خلق الله تعالى أدمج فيه امتنان بما يأتي به ذلك الماء العجيب من المنافع للناس من نعمة الشراب ، ونعمة الطعام للحيوان الذي به قوام حياة الناس وللناس أنفسهم .
وصيغة تعريف المسند إليه والمسند أفادت الحصر ، أي هو لا غيره ، وهذا قصر على خلاف مقتضى الظاهر ; لأن المخاطبين لا ينكرون ذلك ، ولا يدعون له شريكا في ذلك ، ولكنهم لما عبدوا أصناما لم تنعم عليهم بذلك ، وكان حالهم كحال من يدعي أن الأصنام أنعمت عليهم بهذه النعم ، فنزلوا منزلة من يدعي الشركة لله في الخلق ، فكان القصر قصر إفراد تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر .
وإنزال الماء من السماء تقدم معناه عند قوله تعالى
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم في سورة البقرة .
وذكر في الماء منتين : الشراب منه ، والإنبات للشجر والزرع .
وجملة (
لكم منه شراب ) صفة لـ ( ماء ) ، و ( لكم ) متعلق بـ ( شراب ) قدم عليه للاهتمام ، و ( منه ) خبر مقدم كذلك ، وتقديمه سوغ أن يكون المبتدأ نكرة .
[ ص: 114 ] والشراب : اسم للمشروب ، وهو المائع الذي تشتفه الشفتان وتبلغه إلى الحلق فيبلع دون مضغ .
و ( من ) تبعيضية ، وقوله تعالى و ( منه شجر ) نظير قوله (
منه شراب ) ، وأعيد حرف ( من ) بعد واو العطف ; لأن حرف ( من ) هنا للابتداء ، أو للسببية فلا يحسن عطف ( شجر ) على ( شراب ) .
والشجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبا .
وروعي هذا التغليب هنا ; لأنه غالب مرعى أنعام
أهل الحجاز ; لقلة الكلأ في أرضهم ، فهم يرعون الشعاري والغابات ، وفي حديث ضالة الإبل تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها .
ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف ( في ) الظرفية ، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه ، والأكل مما تحته من العشب .
والإسامة : إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي ، يقال : سامت الماشية فهي سائمة وأسامها ربها .