ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النعمة ، فهي معطوفة على جملة
وما بكم من نعمة فمن الله ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى
وما بكم من نعمة على طريق الالتفات ، ويجوز أن تكون معطوفة على ( يشركون ) من قوله تعالى
إذا فريق منكم بربهم يشركون .
وما حكي هنا هو تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم ، والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربهم ، إذ
جعلوا في أموالهم حقا للأصنام التي لم ترزقهم شيئا ، وقد مر ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا .
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله ; لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم ، وإن كان كل ذلك منكرا عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشد من بعض .
والجعل : التصيير والوضع ، تقول : جعلت لك في مالي كذا ، وجيء هنا بصيغة المضارع للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى
وأقسموا بالله بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم ، وجدالهم في أمر البعث .
[ ص: 181 ] ومفعول يعلمون محذوف لظهوره ، وهو ضمير ( ما ) ، أي لا يعلمونه ، ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام .
وماصدق صلة ما لا يعلمون وهو الأصنام ، وإنما عبر عنها بهذه الصلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بله مبلغ ما ينالهم منها ، وتخيلات يتخيلونها ليست في الوجود ، ولا في الإدراك ، ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، وضمير تعلمون عائد إلى معاد ضمير ( يجعلون ) .
ووصف النصيب بأنه
مما رزقناهم لتشنيع ظلمهم ; إذ تركوا المنعم فلم يتقربوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئا .
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد ، ولا مانع من الالتفات هنا ; لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى فتمتعوا .
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث ، وهم ينكرونه فناسب أن يؤكد .
والقسم بالتاء يختص بما يكون المقسم عليه أمرا عجيبا ومستغربا ، كما تقدم في قوله تعالى
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض في سورة
يوسف ، وسيأتي في قوله تعالى
وتالله لأكيدن أصنامكم في سورة الأنبياء ، فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالا عجيبا بمقدار غرابة الجرم المسئول عنه .
والسؤال كناية عما يترتب عليه من العقاب ; لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عما اقترفه إذ لعل له ما يدفع به عن نفسه ،
[ ص: 182 ] فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السنن الشريف ، والتعبير عنه بـ
كنتم تفترون كناية عن استحقاقهم العقاب ; لأن الكذب على الله جريمة .
والإتيان بفعل الكون ، وبالمضارع للدلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجددا ومستمرا منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عما تفترون ، وعما افتريتم .