وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون عطف على جملة القسم ، والمناسبة أن القرآن أنزل لإتمام الهداية ، وكشف الشبهات التي عرضت للأمم الماضية والحاضرة فتركت أمثالها في العرب وغيرهم .
فلما ذكرت ضلالاتهم وشبهاتهم عقب ذلك ببيان الحكمة في إرسال
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنزال القرآن إليه ، فالقرآن جاء مبينا للمشركين ضلالهم بيانا لا يترك للباطل مسلكا إلى النفوس ، ومفصحا عن الهدى إفصاحا لا يترك للحيرة مجالا في العقول ، ورحمة للمؤمنين بما جازاهم عن إيمانهم من خير الدنيا والآخرة .
[ ص: 196 ] وعبر عن الضلال بطريقة الموصولية الذي اختلفوا فيه للإيماء إلى أن سبب الضلال هو اختلافهم على أنبيائهم ، فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام ، عبدت كل قبيلة منهم صنما ، وعبد بعضهم الشمس والكواكب ، واتخذت كل قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا ، واختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدين .
والإتيان بصيغة القصر في قوله تعالى
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لقصد الإحاطة بالأهم من غاية القرآن وفائدته التي أنزل لأجلها ، فهو قصر ادعائي ليرغب السامعون في تلقيه وتدبره من مؤمن وكافر كل بما يليق بحاله حتى يستووا في الاهتداء .
ثم إن القصر يعرض بتفنيد أقوال من حسبوا من المشركين أن القرآن أنزل لذكر القصص لتعليل الأنفس في الأسمار ونحوها حتى قال مضلهم : أنا آتيكم بأحسن مما جاء به
محمد ، آتيكم بقصة
رستم واسفنديار ، فالقرآن أهم مقاصده هذه الفوائد الجامعة لأصول الخير ، وهي كشف الجهالات والهدى إلى المعارف الحق وحصول أثر ذينك الأمرين ، وهو الرحمة الناشئة عن مجانبة الضلال ، وإتباع الهدى .
وأدخلت لام التعليل على فعل ( تبين ) الواقع موقع المفعول لأجله ; لأنه من فعل المخاطب لا من فعل فاعل ( أنزلنا ) ، فالنبيء هو المباشر للبيان بالقرآن تبليغا وتفسيرا ، فلا يصح في العربية الإتيان بالتبيين مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله ، إذ ليس متحدا مع العامل في الفاعل ، ولذلك خولف في المعطوف فنصب ( هدى ورحمة ) ; لأنهما من أفعال منزل القرآن ، فالله هو الهادي والراحم بالقرآن ، وكل من البيان والهدى والرحمة حاصل بالقرآن ، فآلت الصفات الثلاث إلى أنها صفات للقرآن أيضا .
[ ص: 197 ] والتعبير بـ ( لقوم يؤمنون ) دون للمؤمنين ، أو للذين آمنوا ، للإيماء إلى أنهم الذين الإيمان كالسجية لهم والعادة الراسخة التي تتقوم بها قوميتهم ، كما تقدم في قوله تعالى ( لآيات لقوم يعقلون ) في سورة البقرة .
وهاته الآية بمنزلة التذييل للعبر والحجج الناشئة عن وصف أحوال المخلوقات ، ونعم الخالق على الناس المبتدئة من قوله تعالى
أفمن يخلق كمن لا يخلق .