إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، حسن التخلص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي ، إذ الشريعة كلها أمر ونهي ، والتقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب ، فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانا لكل شيء ، فهي جامعة أصول التشريع .
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بشأن ما حوته ، وتصديرها باسم الجلالة للتشريف ، وذكر ( يأمر ) و ( ينهى ) دون أن يقال : اعدلوا واجتنبوا الفحشاء ، للتشويق . ونظيره ما في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341613إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا الحديث .
والعدل : إعطاء الحق إلى صاحبه ، وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات ، إذ المسلم مأمور
[ ص: 255 ] بالعدل في ذاته ، قال تعالى
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ومأمور بالعدل في المعاملة وهي معاملة مع خالقه : بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه ، ومعاملة مع المخلوقات : من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية ، وذلك في الأقوال والأفعال ، قال تعالى
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، وقال تعالى
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقد تقدم في سورة النساء .
ومن هذا تفرعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب ، وحقوق ، وأقضية ، وشهادات ، ومعاملة مع الأمم ، قال تعالى
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .
ومرجع
تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة ، فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة . فهي بإجمالها مناسبة أحوال المسلمين حين كانوا
بمكة ، فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء ، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية .
وأما
الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها ، والحسن : ما كان محبوبا عند المعامل به ، ولم يكن لازما لفاعله ، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسره النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341174الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، ودون ذلك التقرب إلى الله بالنوافل ، ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب ، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ، ومع سائر الأصناف إلا ما حرم الإحسان بحكم الشرع .
ومن
أدنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342031أن امرأة بغيا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى فنزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها .
[ ص: 256 ] وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341236إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة .
ومن الإحسان أن يجازي المحسن إليه المحسن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب .
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة ، والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى
والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، وتقدم عند قوله تعالى
وبالوالدين إحسانا في سورة الأنعام .
وخص الله بالذكر من جنس أنواع العدل والإحسان نوعا مهما يكثر أن يغفل الناس عنه ، ويتهاونوا بحقه أو بفضله ، وهو إيتاء ذي القربى ، فقد تقرر في نفوس الناس الاعتناء باجتلاب الأبعد واتقاء شره ، كما تقرر في نفوسهم الغفلة عن القريب والاطمئنان من جانبه ، وتعود التساهل في حقوقه ، ولأجل ذلك كثر أن يأخذوا أموال الأيتام من مواليهم ، قال تعالى
وآتوا اليتامى أموالهم ، وقال
وآت ذا القربى حقه ، وقال
وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية ، ولأجل ذلك صرفوا معظم إحسانهم إلى الأبعدين ; لاجتلاب المحمدة ، وحسن الذكر بين الناس ، ولم يزل هذا الخلق متفشيا في الناس حتى في الإسلام إلى الآن ، ولا يكترثون بالأقربين .
وقد كانوا في الجاهلية يقصدون بوصايا أموالهم أصحابهم من وجوه القوم ، ولذلك قال تعالى
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ، فخص الله بالذكر من بين جنس العدل ، وجنس الإحسان إيتاء المال إلى ذي القربى ; تنبيها للمؤمنين يومئذ بأن
القريب أحق بالإنصاف من غيره ، وأحق بالإحسان من غيره ; لأنه محل الغفلة ، ولأن مصلحته أجدى من مصلحة أنواع كثيرة .
[ ص: 257 ] وهذا راجع إلى تقويم نظام العائلة والقبيلة تهيئة بنفوس الناس إلى أحكام المواريث التي شرعت فيما بعد .
وعطف الخاص على العام ; اهتماما به كثير في الكلام ، فإيتاء ذي القربى ذو حكمين : وجوب لبعضه ، وفضيلة لبعضه ، وذلك قبل فرض الوصية ، ثم فرض المواريث .
وذو القربى : هو صاحب القرابة ، أي من المؤتي ، وقد تقدم عند قوله تعالى
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى في سورة الأنعام .
والإيتاء : الإعطاء ، والمراد : إعطاء المال ، قال تعالى
قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم ، وقال
وآتى المال على حبه .
ونهى الله عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي ، وهي
أصول المفاسد .
فأما الفحشاء : فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء : من اعتقاد باطل ، أو عمل مفسد للخلق ، والتي تضر بأفراد الناس ، بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال ، أو تضر بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنى أو تقامر أو شرب خمر ، فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري ، وقد سماها الله الفواحش ، وتقدم ذكر الفحشاء عند قوله تعالى
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء في سورة البقرة ، وقوله
قل إنما حرم ربي الفواحش في سورة الأعراف وهي مكية .
وأما المنكر : فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة ، وتكرهه الشريعة من فعل أو قول ، قال تعالى
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وقال
وتأتون في ناديكم المنكر ، والاستنكار مراتب ، منها مرتبة الحرام ، ومنها مرتبة المكروه ، فإنه منهي عنه ، وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسب الحاجي ، وكذلك ما يعطل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضر .
[ ص: 258 ] وخص الله بالذكر نوعا من الفحشاء والمنكر ، وهو
البغي ; اهتماما بالنهي عنه ؛ وسدا لذريعة وقوعه ; لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب ، وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسبب فشوه بين الناس ، وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء ، فكانوا يكثر فيهم البغي على الغير إذا لقي المعجب بنفسه من أحد شيئا يكرهه ، أو معاملة يعدها هضمية وتقصيرا في تعظيمه ، وبذلك كان يختلط على مريد البغي حسن الذب عما يسميه الشرف ، وقبح مجاوزة حد الجزاء .
فالبغي : هو الاعتداء في المعاملة ، إما بدون مقابلة ذنب كالغارة التي كانت وسيلة كسب في الجاهلية ، وإما بمجاوزة الحد في مقابلة الذنب كالإفراط في المؤاخذة ، ولذا قال تعالى
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ، وقال
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله ، وقد تقدم عند قوله تعالى
والإثم والبغي بغير الحق في سورة الأعراف .
فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة ، والنهي عن ثلاثة ، بل في الأمر بشيئين وتكملة ، والنهي عن شيئين وتكملة .
روى
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : أن هذه كانت السبب في
تمكن الإيمان من nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون ، فإنها لما نزلت كان
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان حديث الإسلام ، وكان إسلامه حياء من النبيء صلى الله عليه وسلم ، وقرأها النبيء عليه ، قال
عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=61عثمان بن أبي العاص :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342032كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره ، فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر بالعدل الآية اهـ ، وهذا يقتضي أن هذه الآية لم تنزل متصلة بالآيات التي قبلها فكان وضعها في هذا الموضع صالحا لأن يكون بيانا لآية
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا [ ص: 259 ] لكل شيء إلخ ، ولأن تكون مقدمة لما بعدها
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم الآية .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : أن هذه الآية
أجمع آية في القرآن .
وعن
قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية ، وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه ، وقدح فيه ، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه عن
علي قال :
أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، فخرج ، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم ، فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه ، فقال مفروق بن عمرو منهم : إلام تدعونا أخا قريش ، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية ، فقال : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك ، وظاهروا عليك .
وقد روي أن الفقرات الشهيرة التي شهد بها
الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله ( إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بكلام بشر ) قالها عند سماع هذه الآية .
وقد اهتدى الخليفة
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما استخلف سنة 99 كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم الجمعة ، وتجعل تلاوتها عوضا عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سب
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وفي تلاوة هذه الآية عوضا عن ذلك السب دقيقة : أنها تقتضي النهي عن ذلك السب إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي .
ولم أقف على تعيين الوقت الذي ابتدع فيه هذا السب ، ولكنه لم يكن في خلافة
معاوية رضي الله عنه .
[ ص: 260 ] وفي السيرة الحلبية أن الشيخ
عز الدين بن عبد السلام ألف كتابا سماه ( الشجرة ) بين فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية ، وسماه
السبكي في الطبقات ( شجرة المعارف ) .
وجملة يعظكم في موضع الحال من اسم الجلالة .
والوعظ : كلام يقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد وتحريضه على الصلاح ، وتقدم عند قوله تعالى
فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء .
والخطاب للمسلمين ; لأن الموعظة من شأن من هو محتاج للكمال النفساني ، ولذلك قارنها بالرجاء بـ
لعلكم تذكرون .
والتذكر : مراجعة المنشيء المغفول عنه ، أي رجاء أن تتذكروا ، أي تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه ; فإنها جامعة باقية في نفوسكم .