ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش ، وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام ; لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشرك ، وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وعلى جملة
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ;لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النقض .
والثمن : العوض الذي يأخذه المعاوض ، وتقدم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون في سورة البقرة ، وذكرنا هناك أن قليلا صفة كاشفة ، وليست مقيدة ، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ، ولو كان أعظم المكتسبات .
وجملة
إنما عند الله هو خير لكم تعليل للنهي باعتبار وصف عوض الاشتراء المنهي عنه بالقلة ، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن ، وإن عظم قدره .
[ ص: 271 ] و
ما عند الله هو ما ادخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة ، كما سننبه عليه عند قوله تعالى
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون ، وخير الآخرة أعظم من الكل ، فالعندية هنا بمعنى الادخار لهم ، كما تقول : لك عندي كذا ، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله
وعنده مفاتح الغيب وقوله
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وقوله
وما عند الله باق .
و ( وإنما ) هذه مركبة من ( إن ) و ( ما ) الموصولة ، فحقها أن تكتب مفصولة ( ما ) عن ( إن ) ; لأنها ليست ( ما ) الكافة ، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتبارا لحالة النطق ، ولم يكن وصل أمثالها مطردا في جميع المواضع من المصحف .
ومعنى
إن كنتم تعلمون إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ، ولا يغركم العاجل ، وفيه حث لهم على التأمل والعلم .
وجملة
ما عندكم ينفد وما عند الله باق تذييل وتعليل لمضمون جملة
إنما عند الله هو خير لكم بأن ما عند الله لهم خير متجدد لا نفاد له ، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافذ ; لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء ، وخزائن الله باقية .
والنفاد : الانقراض ، والبقاء : عدم الفناء .
أي ما عند الله لا يفنى ، فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفد رزقهم ، ولو كثر .
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله ، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعم ، ولذلك كان ضمير ( عندكم ) عائدا إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل ، وبقرينة المقابلة بما عند الله ، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود ، وما عند الواعد ; لأن المنهيين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء .
[ ص: 272 ] ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حمل لهم على حرمان أنفسهم من ذلك النفع العاجل وعدوا الجزاء على صبرهم بقوله تعالى
وليجزين الذين صبروا أجرهم .
قرأه الجمهور و ( ليجزين ) بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى بعهد الله وما بعده ، فهو الناهي والواعد ، فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه .
وقرأه
ابن كثير ، وعاصم ، وابن ذكوان عن
ابن عامر في إحدى روايتين عنه ،
وأبو جعفر بنون العظمة فهو التفات .
و ( أجرهم ) منصوب على المفعولية الثانية لـ يجزين بتضمينه معنى الإعطاء المتعدي إلى مفعولين .
والباء للسببية ، و ( أحسن ) صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن ، كما في قوله تعالى
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن ، وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرع ألم الفتنة من المشركين ، وقد أكد الوعد بلام القسم ، ونون التوكيد .