ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما استئناف ابتدائي ، وهو عود إلى تقرير
أدلة الانفراد بالتصريف في العالم المشوبة بما فيها من نعم على الخلق ، والدالة بذلك الشوب على إتقان الصنع ، ومحكم التدبير لنظام هذا العالم ، وسيادة الإنسان فيه وعليه ، ويشبه أن يكون هذا الكلام عودا إلى قوله
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير [ ص: 158 ] كما تقدم هنالك فراجعه ، فلما جرى الكلام على الإنذار والتحذير أعقب هنا بالاستدلال على صحة الإنذار والتحذير .
والخطاب لجماعة المشركين كما يقتضيه قوله عقبه
فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ، أي أعرضتم عن دعائه ودعوتم الأصنام ، وقوله
ضل من تدعون إلا إياه .
وافتتحت الجملة بالمسند إليه معرفا بالإضافة ، ومستحضرا بصفة الربوبية ; لاستدعاء إقبال السامعين على الخبر المؤذن بأهميته حيث افتتح بما يترقب منه خبر عظيم ; لكونه من شئون الإله الحق ، وخالق الخلق ، ومدبر شئونهم تدبير اللطيف الرحيم ، فيوجب إقبال السامع بشراشره ، إن مؤمنا متذكرا ، أو مشركا ناظرا متدبرا .
وجيء بالجملة الاسمية ; لدلالتها على الدوام والثبات .
وبتعريف طرفيها للدلالة على الانحصار ، أي ربكم هو الذي يزجي لكم الفلك لا غيره ممن تعبدونه باطلا ، وهو الذي لا يزال يفعل ذلك لكم .
وجيء بالصلة فعلا مضارعا ; للدلالة على تكرر ذلك وتجدده ، فحصلت في هذه الجملة على إيجازها معان جمة خصوصية ، وفي ذلك حد الإعجاز . ويزجي : يسوق سوقا بطيئا ، شبه تسخير الفلك للسير في الماء بإزجاء الدابة المثقلة بالحمل .
والفلك هنا جمع لا مفرد ، والبحر : الماء الكثير فيشمل الأنهار كالفرات والدجلة ، وتقدم عند قوله تعالى
والفلك التي تجري في البحر في سورة البقرة .
والابتغاء : الطلب ، والفضل : الرزق ، أي للتجارة ، وتقدم عند قوله تعالى
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في سورة البقرة ، وهذا امتنان على
[ ص: 159 ] الناس كلهم مناسب لعموم الدعوة ; لأن
أهل مكة ما كانوا ينتفعون بركوب البحر ، وإنما ينتفع بذلك عرب
اليمن ، وعرب
العراق ، والناس غيرهم .
وجملة
إنه كان بكم رحيما تعليل وتنبيه لموقع الامتنان ليرفضوا عبادة غيره مما لا أثر له في هذه المنة .