[ ص: 171 ] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا ، فالجملة عطف على جملة
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ، وهو انتقال من وصف حالهم ، وإبطال مقالهم في تكذيب النبيء صلى الله عليه وسلم إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم ، وهي حال طمعهم في أن يستنزلوا النبيء صلى الله عليه وسلم لأن يقول قولا فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه .
وضمائر الغيبة مراد منها كفار
قريش ، أي متولو تدبير أمورهم . وغير الأسلوب من خطابهم في آيات
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى الإقبال على خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان .
والفتن والفتون : معاملة يلحق منها ضر واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها ، من تغلب على القوة وعلى الفكر ، وتقدم في قوله تعالى
والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة .
وعدي يفتنونك بحرف ( عن ) لتضمينه معنى فعل كان الفتن لأجله ، وهو ما فيه معنى يصرفونك .
والذي أوحي إليه هو القرآن .
هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون .
[ ص: 172 ] وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها
القرطبي ، فمنها ما ليس له حظ من القبول ; لوهن سنده ، وعدم انطباقه على معاني الآية ، ومنها ما هو ضعيف السند ، وتتحمله الآية بتكلف ، ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبيء صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعدونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل :
بلال ،
nindex.php?page=showalam&ids=56وعمار بن ياسر ،
وخباب ،
وصهيب ، وأنهم وعدوا النبيء إن هو فعل ذلك بأن يجلسوا إليه ، ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم ، وأن رسول الله هم بأن يظهر لهم بعض اللين ; رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون ، فيكون المراد من الذي أوحينا إليك بعض الذي أوحينا إليك ، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية ، أو ما فيه تنقيض الأصنام .
وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاق ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار ، وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار ; لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول : إن رغبة النبيء صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام ، وفي تأمين المسلمين ، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم ، أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين ، وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين ، وليس فيه فوات شيء على المسلمين ، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه .
فبالموصول في قوله
الذي أوحينا إليك للعهد لما هو معلوم عند النبيء صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته ، فهذه الآية مسوقة مساق
المن على النبيء بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد ، ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية ، وتخوفهم من عواقبها ، وفي ذلك تثبيت للنبيء وللمؤمنين ، وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون .
[ ص: 173 ] وقوله
لتفتري علينا غيره متعلق ب يفتنونك ، واللام للعلة ، أي يفعلون ذلك إضمارا منهم وطمعا في أن يفتري علينا غيره ، أي غير ما أوحي إليك ، وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبيء من سؤال إلى آخر ، فهو راجع إلى نياتهم ، وليس في الكلام ما يقتضي أن النبيء صلى الله عليه وسلم هم بذلك كما فهمه بعض المفسرين ، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ، ولا تقتضي غرض المفعول ، ولا علمه .
و ( إن ) من قوله
وإن كادوا ليفتنونك مخففة من ( إن ) المشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، واللام في ليفتنونك هي اللام الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة وبين ( إن ) النافية فلا تقتضي تأكيدا للجملة .
وجملة
وإذا لاتخذوك خليلا عطف على جملة إن كادوا ليفتنونك . و ( إذن ) حرف جزاء ، والنون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل يفتنونك بما معه من المتعلقات مقحما بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع ( إذا ) مفيدة معنى فاء التفريع .
ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء ; لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبيء صلى الله عليه وسلم فيها ، وألحوا عليه ناسب أن يعطف على جملة أحوالهم ، والتقدير : فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلا ، واللام في قوله لاتخذوك اللام الموطئة للقسم ; لأن الكلام على تقدير الشرط ، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلا .
واللام في قوله لاتخذوك لام جواب ( لو ) إذ كان فعلا ماضيا مثبتا .
والخليل : الصديق ، وتقدم عند قوله تعالى
واتخذ الله إبراهيم خليلا في سورة النساء .