[ ص: 204 ] ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام ، مدمجا في ذلك النعي عليهم ، إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثل ، وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه ، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال ، وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما في سورة البقرة ، ويجوز أن يراد بالمثل الحال ، أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه - ما يزاد بيانه في نوعه .
فجملة
ولقد صرفنا معطوفة على جملة
قل لئن اجتمعت الإنس والجن مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز .
وتأكيدها بلام القسم ، وحرف التحقيق ; لرد أفكار المشركين أنه من عند الله ، فمورد التأكيد هو فصل صرفنا الدال على أنه من عند الله .
والتصريف تقدم آنفا عند قوله تعالى
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا .
وزيد في هذه الآية قيد " للناس " دون الآية السابقة ; لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز ، فكان الناس مقصودين به قصدا أصليا مؤمنهم وكافرهم ، بخلاف الآية المتقدمة ، فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم .
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل " صرفنا " على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام ; لأجل كون الكلام مسوقا لتحديهم والحجة عليهم ، وإن كان
[ ص: 205 ] ذكر القرآن أهم بالأصالة ، إلا أن الاعتبارات الطارئة تقدم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية ; لأن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارفة ; فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالا ، ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، والأظهر كون التعريف في " الناس " للعموم كما يقتضيه قوله
فأبى أكثر الناس إلا كفورا .
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله
من كل مثل بخلاف الآية السابقة ; لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز ، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزا لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله ، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ، ولا يقدر على غرض آخر ، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بين من جهتين ; لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ، ولو في بعض الأغراض ، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة
فأتوا بسورة من مثله فإن ( من ) للتبعيض ، وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف ، أي من كل مثل شريف ، والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل .
و ( من ) في قوله
من كل مثل للتبعيض ، و ( كل ) تفيد العموم ، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل .
وحذف مفعول " أبى " للقرينة ، أي أبى العمل به .
وفي قوله إلا كفورا تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي تأكيد في صورة النقص ، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ، ثم يأتي المستثنى مؤكدا لمعنى المستثنى منه ، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة ، وهو استثناء مفرع لما في فعل " أبى " من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ ; لأن المدار على معنى النفي ، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله
هل كنت إلا بشرا رسولا .
والكفور بضم الكاف المحجود ، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا .