[ ص: 256 ] إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية ، أعوز المفسرين بيانها ، منهم ساكت عنها ، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت .
والذي يبدو : أنها تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم ، وأعطاهم الدنيا لعلهم يشكرونه ، وأنهم بطروا النعمة ، فإن الله يسلب عنه النعمة فتصير بلادهم قاحلة ، وهذا تعريض بأن سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل رسول الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين
يوسف عليه السلام .
ولهذا اتصال بقوله
لينذر بأسا شديدا من لدنه .
وموقع ( إن ) صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى
فلعلك باخع نفسك على آثارهم .
ويحصل من ذلك تذكير بعضهم
قدرة الله تعالى ، وخاصة ما كان منها إيجادا للأشياء ، وأضدادها من حياة الأرض ، وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم ، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر ، ونعمة ونقمة ، كلها عبر لمن يعتبر بالتغير ، ويأخذ إلى الانتقال من حال إلى حال ، فلا يثق بقوته وبطشه ; ليقيس الأشياء بأشباهها ويعرض نفسه على معيار الفضائل ، وحسنى العواقب .
وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس ; لأنها أقرب إلى حسهم وتعلقهم ، كما قال تعالى
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ، وقال
وفي الأرض آيات للموقنين .
[ ص: 257 ] وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معان كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأعراض المقصودة ، فإن الإخبار عن
خلق ما على الأرض زينة يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف ، والامتنان بمثل هذا كثير ، مثل قوله
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وقال
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث .
ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها ، وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان ، واستمرارها باستمرار أنواعها ، وإن كان الزوال يعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها ، فيتضمن هذا امتنانا ببث الحياة في الموجودات الأرضية .
ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها ، وتسبر غور النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم ، فمن موف بحق الشكر ، ومقصر فيه ، وجاحد كافر بنعمة هذا المنعم ناسب إياها إلى غير موجدها ، ومن لوازمها أيضا أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستثار من ذلك مختلف الكيفيات في تناولها ، وتعارض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضا ، واعتداء بعضهم على بعض ، وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع ; لتضبط لهم أحوال معاملاتهم ، ولذلك علل جعل ما على الأرض زينة بقوله " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " ، أي أفوت في حسن من عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر ، وعمل الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحيدة عنه .
فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل ، ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تعلم بطريق الفحوى درجة انعدام الحسن من أصله ، وهي حالة الكفر وسوء العمل ، كما جاء في حديث : مثل المنافق الذي يقرأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن .
[ ص: 258 ] والبلو : الاختبار والتجربة ، وقد تقدم عند قوله تعالى
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت في سورة يونس ، وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغن عن الاختبار والتجربة ، وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده ، وهو كقول
قيس بن الخطيم :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
وقوله
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا تكميل للعبرة ، وتحقيق لفناء العالم ، فقوله " جاعلون " اسم فاعل مراد به المستقبل ، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوما فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم ، قال تعالى :
يوم تبدل الأرض غير الأرض .
والصعيد : التراب ، والجرز : القاحل الأجرد ، وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله
فتصبح صعيدا زلقا في هذه السورة .