وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة
لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا ما أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة ، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث ، فإن علمه عظيم ، وقد قال إبراهيم
رب أرني كيف تحي الموتى .
[ ص: 284 ] والإشارة بقوله وكذلك إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها ، أي كما أنمناهم قرونا بعثناهم ، ووجه الشبه : أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة .
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجب كما تقدم في قوله
وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة ، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة ، وفي التعليل من قوله
ليتساءلوا عند قوله
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى ، والمعنى : بعثناهم فتساءلوا بينهم .
وجملة
قال قائل منهم بيان لجملة ليتساءلوا ، وسميت هذه المحاورة تساؤلا ; لأنها تحاور عن تطلب كل رأي الآخر للوصول إلى تحقيق المدة ، والذين قالوا
لبثنا يوما أو بعض هم من عدا الذي قال
كم لبثتم .
وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم : إما لأنهم تواطئوا عليه ، وإما على إرادة التوزيع ، أي منهم من قال : لبثنا يوما ، ومنهم من قال : لبثنا بعض يوم ، وعلى هذا يجوز أن تكون ( أو ) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى ، وذلك من كمال إيمانهم ، فالقائلون
ربكم أعلم بما لبثتم يجوز أن يكون جميعهم ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم ; لأنهم رأوه صوابا .
وتفريع قولهم
فابعثوا أحدكم على قولهم
ربكم أعلم بما لبثتم ; لأنه في معنى : فدعوا الخوض في مدة اللبث ; فلا يعلمها إلا الله ، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، وهو قريب من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أن غيره أولى بحاله ، ولولا قولهم
ربكم أعلم بما لبثتم لكان قولهم
فابعثوا أحدكم عين الأسلوب الحكيم .
[ ص: 285 ] والورق بفتح الواو وكسر الراء : الفضة ، وكذلك قرأه الجمهور ، ويقال " ورق " بفتح الواو ، وسكون الراء ، وبذلك قرأ
أبو عمرو وحمزة ، وأبو بكر عن
عاصم ، وروح عن
يعقوب ، وخلف ، والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة ، وهي الدراهم ، قيل : كانت من دراهم (
دقيوس ) سلطان الروم .
والإشارة بـ " هذه " إلى دراهم معينة عندهم ، والمدينة هي (
أبسس ) بالباء الموحدة ، وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة .
و " أيها " ماصدقه أي مكان من المدينة ; لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة ، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاما ، أي أزكى طعامه من طعام غيره .
والنصب " طعاما " على التمييز لنسبة ( أزكى ) إلى ( أي ) .
والأزكى : الأطيب والأحسن ; لأن الزكو الزيادة في الخير والنفع .
والرزق : القوت ، وقد تقدم عند قوله تعالى
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه في سورة يوسف ، والفاء لتفريع أمرهم من يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي ، وبأن يتلطف .
وصيغة الأمر في قوله " فليأتكم " و " ليتلطف " أمر لأحد غير معين سيوكلونه ، أي : إن تبعثوه يأتكم برزق ، ويجوز أن يكون المأمور معينا بينهم ، وإنما الإجمال في حماية كلامهم لا في الكلام المحكي ، وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك .
قيل : التاء من كلمة " وليتلطف " هي نصف حروف القرآن عدا ، وهنالك قول اقتصر عليه
ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى
لقد جئت شيئا نكرا هي نصف حروف القرآن .
[ ص: 286 ] والإشعار : الإعلام ، وهو إفعال من شعر ، من باب نصر وكرم ، شعورا ، أي علم ، فالهمزة للتعدية ، مثل همزة " أعلم " من " علم " الذي هو عليم العرفان يتعدى إلى واحد .
وقوله " بكم " متعلق بـ " يشعرن " ، فمدخول الباء هو المشعور ، أي المعلوم ، والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل " يشعرن " من قبيل تعليق الحكم بالذات ، والمراد بعض أحوالها ، والتقدير : ولا يخبرن بوجودكم أحدا ، فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء ، فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك ، والنون لتوكيد النهي تحذيرا من عواقبه المضمنة في جملة
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم الواقعة تعليلا للنهي ، وبيانا لوجه توكيد النهي بالنون ، فهي واقعة موقع العلة والبيان ، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها .
وجملة
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم علة للأمر بالتلطف ، والنهي عن إشعار أحد بهم .
وضمير " إنهم " عائد إلى ما أفاده العموم في قوله
ولا يشعرن بكم أحدا ، فصار " أحدا " في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي .
والظهور أصله البروز دون ساتر ، ويطلق على الظفر بالشيء ، وعلى الغلبة على الغير ، وهو المراد هنا .
قال تعالى
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء وقال
وأظهره الله عليه وقال
تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان .
والرجم : القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت ، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب .
[ ص: 287 ] وجملة
يرجموكم جواب شرط
إن يظهروا عليكم ومجموع جملتي الشرط وجوابه - دليل على خبر ( إن ) المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه .
ومعنى
يعيدوكم في ملتهم يرجعوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم ، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم .
والملة الدين ، وقد تقدم في سورة يوسف عند قوله
إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله .
وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنه يترتب عليه انتفاء فلاحهم في المستقبل ، لما دل عليه حرف ( إذا ) من الجزائية .
و " أبدا " ظرف للمستقبل كله ، وهو تأكيد لما دل عليه النفي بـ ( لن ) من التأييد أو ما يقاربه .