كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
تشبيه للعلتين من قوله ولأتم وقوله ولعلكم تهتدون أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال
محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل الإرسال مشبها به لأنه أسبق وأظهر تحقيقا للمشبه ;أي أن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341176كما صليت على إبراهيم ونكر " رسول " للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة ، فالخطاب في قوله فيكم وما بعده للمؤمنين من
المهاجرين والأنصار تذكيرا لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولا بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيرا لهدايتهم; وهذا على نحو دعوة
إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا .
ولذلك علق بفعل أرسلنا حرف " في " ولم يعلق به حرف " إلى " كما في قوله
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم ، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم ، والمسلمون يومئذ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية ، فالأمة العربية يومئذ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي nindex.php?page=showalam&ids=115وبلال الحبشي nindex.php?page=showalam&ids=106وعبد الله بن سلام الإسرائيلي ، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام ، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده ، ويدركون إعجاز القرآن ، ويفوزون بمزية
[ ص: 49 ] نقل هذا الدين إلى الأمم ، وهذه المزية ينالها كل من يعلم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية ، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواترا ، ويسهل انتشاره سريعا .
والرسول : المرسل فهو فعول بمعنى المفعول مثل ذلول ، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفه عند قوله تعالى
فقولا إنا رسول رب العالمين في سورة الشعراء .
وقوله
يتلو عليكم آياتنا أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولا آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة ، وسماه ثانيا كتابا باعتبار كونه كتاب شريعة ، وقد تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة .
وعبر بـ يتلو لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبيء له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين .
وقوله ويزكيكم إلخ : التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء ، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل ، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها ، قال تعالى
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341027بعثت لأتمم حسن الأخلاق ، ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة .
وقوله
ويعلمكم الكتاب والحكمة أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا ويعلمكم أصول الفضائل ، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد ، وتقدم نظيره في دعوة
إبراهيم وسيأتي أيضا عند قوله تعالى
يؤتي الحكمة من يشاء في هذه السورة .
وقدمت جملة ويزكيكم على جملة
ويعلمكم الكتاب والحكمة هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول
إبراهيم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها وبعثا لها بالحرص على تحصيل
[ ص: 50 ] وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . فأما في دعوة
إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن .
وقوله
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك .
وإنما أعاد قوله ويعلمكم مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصا على المغايرة لئلا يظن أن
ما لم تكونوا تعلمون هو الكتاب والحكمة ، وتنصيصا على أن ( ما لم تكونوا ) مفعول لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبرا له فيضل فهمه في ذلك الترقب ، واعلم أن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامله كان عاطفه عاملا على مثله ، فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل .