فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا
الفاء للتفريع والتعقيب ، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة .
والحمل : العلوق ، يقال : حملت المرأة ولدا ، وهو الأصل ، قال تعالى
حملته أمه كرها . ويقال : حملت به . وكأن الباء لتأكيد اللصوق ، مثلها في
وامسحوا برءوسكم .
قال
أبو كبير الهذلي :
حملت به في ليلة قرءودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل
والانتباذ تقدم قريبا ، وكذلك انتصاب مكانا تقدم .
و قصيا بعيدا ، أي بعيدا عن مكان أهلها . قيل : خرجت إلى
البلاد المصرية فارة من قومها أن يعزروها وأعانها خطيبها
يوسف النجار وأنها ولدت
عيسى - عليه السلام - في
الأرض المصرية . ولا يصح .
وفي إنجيل لوقا : أنها
ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها
يوسف النجار إذ كان مطلوبا للحضور بقرية أهله لأن ملك البلاد يجري إحصاء سكان البلاد ، وهو ظاهر قوله تعالى
فأتت به قومها تحمله .
[ ص: 85 ] والفاء في قوله
فأجاءها المخاض للتعقيب العرفي ، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل ، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها . و أجاءها معناه ألجأها ، وأصله جاء ، عدي بالهمزة فقيل : أجاءه ، أي جعله جائيا . ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء ، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء ، ويضطره إلى المجيء إليه . قال
الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء . وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب ، وقال
زهير :
وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
والمخاض بفتح الميم : طلق الحامل ، وهو تحرك الجنين للخروج .
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد . وهو ما بين العروق والأغصان ، أي إلى أصل نخلة استندت إليه .
وجملة قالت استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ; فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها .
وهذا دليل على
مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى . فلذلك كانت في مقام الصديقية .
والمشار إليه في قولها
قبل هذا هو الحمل . أرادت أن لا يتطرق عرضها بطعن ولا تجر على أهلها معرة . ولم تتمن أن تكون ماتت
[ ص: 86 ] بعد بدو الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة .
وقرأ الجمهور مت بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم في سورة آل عمران . وقرأه
ابن كثير ،
وابن عامر ،
وأبو عمرو ،
وعاصم ،
وأبو جعفر بضم الميم على الأصل . وهما لغتان في فعل ( مات ) إذا اتصل به ضمير رفع متصل .
والنسي بكسر النون وسكون السين في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى . ووزن فعل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيد تهيئته لتعلق الفعل به دون تعلق حصل . وذلك مثل الذبح في قوله تعالى
وفديناه بذبح عظيم ، أي كبش عظيم معد لأن يذبح ، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذبيح . والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنساء ، ويقولون عند الارتحال : انظروا أنساءكم ، أي الأشياء التي شأنكم أن تنسوها . ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها ، أي ليتني كنت شيئا غير متذكر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به ، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك . وقرأه
حمزة ،
وحفص ،
وخلف ( نسيا ) بفتح النون ، وهو لغة في النسي ، كالوتر والوتر ، والجسر والجسر .