قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .
هذا جواب قولهم (
أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) . لقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - كشف مغالطتهم أو شبهتهم ؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إياهم ، لأن ملاذ الكافر استدراج . فمعيار التفرقة بين النعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال ، قال تعالى في شأن الأولين (
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . وقال في شأن الآخرين (
أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) .
[ ص: 156 ] والمعنى : أن من كان منغمسا في الضلالة اغتر بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا (
أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) . واللام في قوله (
فليمدد له الرحمن مدا ) لام الأمر أو الدعاء ، استعملت مجازا في لازم معنى الأمر ، أي التحقيق ، أي فسيمد له الرحمن مدا ، أي أن ذلك واقع لا محالة على
سنة الله في إمهال الضلال ، إعذارا لهم ، كما قال تعالى (
أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) تنبيها للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضلال حتى أن المؤمنين يدعون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفار . فإن كان المقصود من قل أن يقول النبيء ذلك للكفار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق ، وإن كان المقصود أن يبلغ النبيء ذلك عن الله أنه قال ذلك فلام الأمر مجاز أيضا وتجريد ، بحيث إن الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم .
والمد : حقيقته إرخاء الحبل وإطالته ، ويستعمل مجازا في الإمهال كما هنا ، وفي الإطالة كما في قولهم : مد الله في عمرك .
ومدا مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي فليمدد له المد الشديد ، فسينتهي ذلك ، وحتى لغاية المد ، وهي ابتدائية ، أي يمد له الرحمن إلى أن يروا ما يوعدون ؛ أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدتهم في النعمة .
فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها حتى لا لفظا مفردا . والتقدير : يمد لهم الرحمن حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى .
[ ص: 157 ] وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدلالة على الاستقبال لأن الاستقبال استفيد من الغاية .
وإما حرف تفصيل لـ (
ما يوعدون ) ، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة ، فإن كل واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما .
وانتصب لفظ العذاب على المفعولية ل يروا . وحرف إما غير عاطف ، وهو معترض بين العامل ومعموله ، كما في قول
تأبط شرا :
هما خطتا إما إسار ومنة وإما دم والموت بالحر أجدر
بجر " إسار ، ومنة ، ودم " . وقوله (
شر مكانا وأضعف جندا ) مقابل قولهم (
خير مقاما وأحسن نديا ) فالمكان يرادف المقام ، والجند الأعوان ، لأن الندي أريد به أهله كما تقدم ، فقوبل ( خير نديا ) ب ( أضعف جندا ) .
وجملة (
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) معطوفة على جملة (
من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال ، والاستمرار : الزيادة ؛ فالمعنى على الاحتباك ، أي فليمدد له الرحمن مدا فيزدد ضلالا ، ويمد للذين اهتدوا فيزدادوا هدى .
وجملة (
والباقيات الصالحات خير ) عطف على جملة (
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) ، وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات ، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى (
فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ) ، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزة هو أقل مما كان
[ ص: 158 ] عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين . إذ كان مآل الكفرة العذاب ومآل المؤمنين السلامة من العذاب وبعد فللمؤمنين الثواب .
والباقيات الصالحات : صفتان لمحذوف معلوم من المقام الأعمال الباقي نعيمها وخيرها ، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب . وقد تقدم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف .
والمرد : المرجع . والمراد به عاقبة الأمر .