فإنما يسرنه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .
إيذان بانتهاء السورة ، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأن المتكلم سيطوي بساطه . وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام . فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم .
فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدل عليه المذكور ، كأنه قيل : بلغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلا للبشارة والنذارة
[ ص: 176 ] ولا تعبأ بما حصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد . وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتبعناك .
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله (
لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) . ووعد المؤمنين بقوله (
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . والمفرع هو مضمون (
لتبشر به ) إلخ (
وتنذر به ) إلخ ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئت به من النذارة ، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلا لذلك .
وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السياق مثل (
حتى توارت بالحجاب ) . وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن . وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسر للقراءة ، كقوله تعالى (
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) .
واللسان : اللغة ، أي بلغتك ، وهي العربية ، كقوله (
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) ؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب .
والباء للسببية أو المصاحبة .
وعبر عن الكفار ب " قوما لدا " ذما لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة ، أي أهل تصميم على باطلهم ، فاللد : جمع ألد ، وهو الأقوى في اللدد ، وهو الإباية من الاعتراف بالحق . وفي الحديث
[ ص: 177 ] الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342133أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .
ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللدد ، قال بعضهم في رثاء البعض :
إن تحت الأحجار حزما وعزما وخصيما ألد ذا مغلاق
وقد حسن مقابلة المتقين بقوم لد . لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولدد .
وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق ، كما قال تعالى (
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) .
وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللدد شأنهم ، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم ، كما تقدم في قوله تعالى (
لآيات لقوم يعقلون ) في سورة البقرة ، وقوله تعالى (
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) في سورة يونس .