قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى .
هذه الجملة متصلة بجملة (
قال فما بال القرون الأولى ) وجواب
موسى عنها . وافتتاحها بفعل ( قال ) وعدم عطفه لا يترك شكا في أن هذا من تمام المحاورة .
وقوله ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ) يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حية ، وانقلاب يده بيضاء . وذلك ما سماه
فرعون سحرا . وقد صرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما (
قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره )
[ ص: 244 ] الآية في سورة الشعراء . وقد استغني عن ذكره هنا بما في جملة (
ولقد أريناه آياتنا كلها ) من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حية .
وإضافته السحر إلى ضمير
موسى قصد منها تحقير شأن هذا الذي سماه سحرا . وأسند الإتيان بسحر مثله إلى ضمير نفسه تعظيما لشأنه . ومعنى إتيانه بالسحر : إحضار السحرة بين يديه ، أي فلنأتينك بسحر ممن شأنهم أن يأتوا بالسحر ، إذ السحر لا بد له من ساحر .
والمماثلة في قوله ( مثله ) مماثلة في جنس السحر لا في قوته .
وإنما جعل
فرعون العلة في مجيء
موسى إليه : أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياسا منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولهم محلهم ، يعني أن
موسى غرته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع
فرعون من ملكه ، أي حسبت أن إظهار الخوارق يطوع لك الأمة فيجعلونك ملكا عليهم وتخرجني من أرضي . فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة ، لأن
موسى لم يصدر عنه ما يشم منه إخراجهم من أرضهم .
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملا في الجماعة تغليبا ، ونزل
فرعون نفسه واحدا منها . وأراد بالجماعة جماعة
بني إسرائيل حيث قال له
موسى (
فأرسل معنا بني إسرائيل ) ، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمة بما تظهر لهم من سحرك .
[ ص: 245 ] والاستفهام في أجئتنا إنكاري ، ولذلك فرع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله . والقسم من أساليب إظهار الغضب .
واللام لام القسم ، والنون لتوكيده . وقصد
فرعون من مقابلة عمل
موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق
موسى وكونه على الحق ، لعل ذلك يفضي بهم إلى الثورة على
فرعون وإزالته من ملك
مصر .
وفرع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين
موسى ليحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره . والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي ، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد ، وهذا إيجاز في الكلام .
وقوله ( مكانا ) بدل اشتمال من ( موعدا ) بأحد معنييه ، لأن الفعل يقتضي مكانا وزمانا فأبدل منه مكانه .
وقوله (
لا نخلفه ) في قراءة الجمهور برفع الفعل صفة ل ( موعدا ) باعتبار معناه المصدري . وقرأه
أبو جعفر بجزم الفاء من ( نخلفه ) على أن لا ناهية . والنهي تحذير من إخلافه .
و ( سوى )
قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بكسر السين .
وقرأه عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، ويعقوب ، وخلف بضم السين وهما لغتان . فالكسر بوزن فعل ، قال
أبو علي : وزن " فعل " يقل في الصفات ، نحو : قوم عدى . وقال
أبو عبيدة ، وأبو حاتم ، والنحاس : كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة ، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء : فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين . وأنشد
أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي :
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
[ ص: 246 ] الفزر : لقب
لسعد بن زيد مناة بن تميم هو بكسر الفاء . والمعنى : قال
مجاهد : إنه مكان نصف ، وكان المراد أنه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة . وعن
ابن زيد : المعنى مكانا مستويا ، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين ، أراد مكانا منكشفا للناظرين ليشهدوا أعمال
موسى وأعمال السحرة .
ثم تعيين الموعد غير المخلف يقتضي زمانه لا محالة ، إذ لا يتصور الإخلاف إلا إذا كان للوعد وقت معين ومكان معين ، فمن ثم طابقه جواب
موسى بقوله (
موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) . فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكانا معروفا . ولعله كان بساحة قصر
فرعون ، لأنهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم .
فقوله (
يوم الزينة ) تعيين للوقت ، وقوله (
وأن يحشر الناس ) تعيين للمكان ، وقوله ( ضحى ) تقييد لمطلق الوقت .
والضحى : وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها .
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند
القبط ، وهو يوم كسر الخليج أو الخلجان ، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي ، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها .
وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطية ، وذلك هو أول يوم من شهر " توت " القبطي . وهو " أيلول " بحسب التاريخ الإسكندري ، وذلك قبل
[ ص: 247 ] حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوما ، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوما ، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين " سبتمبر " . وأول أيام شهر " توت " هو يوم النيروز عند
الفرس ، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس .
واختار
موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلج له ، فأحب أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهدا وأوضح رؤية .