[ ص: 259 ] فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .
أوجس : أضمر واستشعر . وانتصاب ( خيفة ) على المفعولية ، أي وجد في نفسه ؛ وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى (
نكرهم وأوجس منهم خيفة ) في سورة هود .
و ( خيفة ) اسم هيئة من الخوف ، أريد به مطلق المصدر ، وأصله خوفة ، فقلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة .
وزيادة (
في نفسه ) هنا للإشارة إلى أنها خيفة تفكر لم يظهر أثرها على ملامحه . وإنما خاف
موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعبانا ، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة ، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدة ؛ فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومده لما تكون له العاقبة فخشي ذلك . وهذا
مقام الخوف ، وهو مقام جليل مثله مقام النبيء - صلى الله عليه وسلم - يوم
بدر إذ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342145اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض .
والدليل على هذا قوله تعالى (
قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) . فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقوية تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في الأعلى دليل على أن ما خامره من الخوف إنما هو خوف ظهور السحرة عند العامة ولو في وقت ما . وهو وإن كان موقنا
[ ص: 260 ] بأن الله ينجز له ما أرسله لأجله لكنه لا مانع من أن
يستدرج الله الكفرة مدة قليلة لإظهار ثبات إيمان المؤمنين ، كما قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - (
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ) .
وعبر عن العصا ب ( ما ) الموصولة تذكيرا له بيوم التكليم إذ قال له (
وما تلك بيمينك يا موسى ) ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ ، ولذلك لم يقل له : وألق عصاك .
والتلقف : الابتلاع . وقرأه الجمهور بجزم ( تلقف ) في جواب قوله ( وألق ) ،
وقرأه ابن ذكوان برفع ( تلقف ) على الاستئناف .
وقرأ الجمهور ( تلقف ) بفتح اللام وتشديد القاف .
وقرأه
حفص بسكون اللام وفتح القاف من لقف كفرح .
وجملة (
إنما صنعوا كيد ساحر ) مستأنفة ابتدائية ، وهي مركبة من ( إن ) و ( ما ) الموصولة . (
كيد ساحر ) خبر ( إن ) .
والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه . وكتب ( إنما ) في المصحف موصولة ( إن ) ب ( ما ) الموصولة كما توصل ب ( ما ) الكافة في نحو (
إنما حرم عليكم الميتة ) ولم يكن المتقدمون يتوخون الفروق في رسم الخط .
وقرأ الجمهور (
كيد ساحر ) بألف بعد السين ، وقرأه
حمزة ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وخلف ( كيد سحر ) بكسر السين .
وجملة (
ولا يفلح الساحر حيث أتى ) من تمام الجملة التي قبلها ، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير (
إنما صنعوا ) ، أي لا ينجح الساحر حيث كان ، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس
[ ص: 261 ] في عدم التأثر بها . وتعريف ( الساحر ) تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف ، أي لا يفلح بها كل ساحر .
واختير فعل ( أتى ) دون نحو : حيث كان ، أو حيث حل ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبين من جهات
مصر ، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة .
وتعميم (
حيث أتى ) لعموم الأمكنة التي يحضرها ، أي بسحره .
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن
نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها . وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، لأن عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها .