فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين
تفريع على جملة
قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، فاسم " تلك " إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى :
قالوا يا ويلنا ، وتأنيثه لأنه
[ ص: 28 ] اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم ، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يدعون بها على أنفسهم .
وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى :
لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ؛ لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها ، إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر ، بخلاف الكلام المسوق جوابا فإنه لا داعي إلى إعادته . والمعنى : فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم .
وسمي ذلك القول دعوى ؛ لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل ، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى :
دعواهم فيها سبحانك اللهم في سورة يونس . أي فما زال يكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد ، أي أهلكناهم .
وحرف " حتى " مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى :
فما زالت تلك دعواهم .
والحصيد : فعيل بمعنى مفعول ، أي المحصود . وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا .
والحصد : جز الزرع والنبات بالمنجل لا باليد . وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد .
والخامد : اسم فاعل من خمدت النار تخمد - بضم الميم - إذا زال لهيبها . شبهوا بزرع حصد ، أي بعد أن كان قائما على سوقه خضرا ، فهو يتضمن تشبيههم قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة ،
[ ص: 29 ] كما شبه بالزرع في قوله تعالى :
كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع في سورة الفتح . ويقال للناشئ : أنبته الله نباتا حسنا ، قال تعالى :
وأنبتها نباتا حسنا في سورة " آل عمران " . فللإشارة إلى الشبهين شبه البهجة وشبه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحصيد . وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة ، فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس ، كما شبه بالنار في قوله تعالى :
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله في سورة المائدة وقوله تعالى :
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا في سورة البقرة ، فحصل تشبيهان بليغان ، وليسا باستعارتين مكنيتين ؛ لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوم حقيقة الاستعارة ، خلافا للعلامتين
التفتزاني والجرجاني في شرحيهما للمفتاح متمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى : " جعلناهم " ، فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين ، إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهبت قوتها ، وحذف المشبه بهما ورمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود ، فكان " حصيدا " وصفا في المعنى للضمير المنصوب في جعلناهم ، فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى :
وحب الحصيد ، وبذلك لم يكن قوله تعالى : "
حصيدا " من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى : "
خامدين " الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر ، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه . وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف .
وانتصب
حصيدا خامدين على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر ، فإن مفعولي " جعل " أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفا لأولهما كما هو ظاهر .