لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون
جملة مبينة للإنكار الذي في قوله تعالى : "
أم اتخذوا آلهة " ولذلك فصلت ولم تعطف ، وضمير المثنى عائد إلى " السماوات والأرض " من قوله تعالى : "
وله من في السماوات والأرض " أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامهما الذي خلقتا به .
وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين ؛ إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق ، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض
[ ص: 39 ] أقام في الأرض شركاء له ، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء .
وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض ؛ لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق السماوات والأرض ، قال تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله في سورة الزمر ، وقال تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم في سورة الزخرف . فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع ؛ إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين ، ولا لإثبات انفراده بالخلق ؛ إذ لا نزاع فيه كذلك ، ولكنها منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم .
والفساد : هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء . ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيها . فمن صلاح السماء نظام كواكبها ، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها ، ونظام النور والظلمة . ومن صلاح الأرض مهدها للسير ، وإنباتها الشجر والزرع ، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب ، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح .
ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الألوهية المعروفة آثارها ، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف ، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر ؛ لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إرادتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثا ؛ للاستغناء بواحد منهم ، ولأنه إذا حصل
[ ص: 40 ] كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثرين على مؤثر واحد ، وهو محال ؛ لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد ، فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافا بالأنواع ، أو بالأحوال ، أو بالبقاع ، فالإله الذي لا تنفذ إرادته في بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره ، ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم ، فكل يغار على ما في سلطانه ، فثبت أن التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوث الخلاف .
ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم ، وكان مقتضيا تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده ، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه - تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يهلك كل ما هو تحت سلطانه ، فلا يزال يفسد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى :
وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض في سورة " المؤمنون " .
فلا جرم أن دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامها في متعدد العصور والأحوال على أن إلهها واحد غير متعدد .
فأما لو فرض التفاوت في حقيقته الإلهية فإن ذلك يقتضي رجحان بعض الآلهة على بعض ، وهو أدخل في اقتضاء الفساد ؛ إذ تصير الغلبة للأقوى منهم ، فيجعل الكل تحت كلاكله ويفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حوزته ، فيكون الفساد أسرع .
[ ص: 41 ] وهذا الاستدلال باعتبار كونه مسوقا لإبطال تعدد خاص ، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات ، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشر ، أو أحدهما للنور والآخر للظلمة - هو دليل قطعي .
وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على
إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسموه برهان التمانع ، فهو دليل إقناعي كما قال
سعد الدين التفتزاني في شرح النسفية . وقال في المقاصد : وفي بعضها ضعف لا يخفى .
وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء ، فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العرف ، وهو قياس إقناعي .
ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة ، أي يمنع بعضهم بعضا من تنفيذ مراده ، والخوض فيه مقامنا غني عنه .
والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجة عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلا قطعيا ؛ لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى :
وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . وسيجيء في سورة المؤمنون .
وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب " المواقف " .
الأولى : طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة ، وتقريرها : أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة ،
[ ص: 42 ] فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعلان إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر - بفتح المثلثة - واحد ، وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد . وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مرجح ؛ لاستوائهما في الصفة والموصوف بها ، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع ، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل ؛ لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة .
ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور : أحدها أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة ، بل يجوز عقلا أن يكون أحدهما أقوى قدرة من الآخر ، وأجيب عنه بأن العجز مطلقا مناف للألوهية بداهة ، قاله
عبد الحكيم في " حاشية البيضاوي " .
الأمر الثاني : يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمر الذي لم يرده الآخر ، فلا يلزم عجز من لم يفعل .
الأمر الثالث : يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال .
الأمر الرابع : يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل ، فلا يلزم عجز المفوض ؛ لأن عدم إيجاد المقدور لمانع أراده القادر لا يسمى عجزا ، لا سيما وقد حصل مراده ، وإن لم يفعله بنفسه .
والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أن في جميعها نقصا في الألوهية ؛ لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال .
إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع .
الطريقة الثانية : عول عليها
التفتزاني في شرح العقائد النسفية وهي أن تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما ، أي أن يمنع أحدهما
[ ص: 43 ] ما يريده الآخر ؛ لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة ، وإذا كان هذا الإمكان لازما للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذا تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده ، فلا يصح أن يحصل المرادان معا ؛ للزوم اجتماع النقيضين ، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل ، والعجز يستلزم الحدوث وهو محال ، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازم للتعدد وهو محال ، ولازم اللازم لازم ، فيكون الملزوم الأول محالا ، قال التفتزاني : وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع .
وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل ؛ لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أن اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به ، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء . والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة ، فعلمهما وحكمتهما يقتضيان انكشافا متماثلا ، فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع . ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي .
بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما ، فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى .
وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أن الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما ، وإن كان احتمالا صحيحا لكن يصير به تعدد الإله عبثا ؛ لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما ، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد ، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر ، فالآية دليل قطعي .
[ ص: 44 ] ثم رجع عن ذلك في " شرح النسفية " ، فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين ، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلا قطعيا إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى : " فيهما " ، وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير ، أي لو كان مؤثرا فيهما - أي السماوات والأرض - غير الله تكون الآية حجة قطعية . وقد بسطه عبد الحكيم في حاشيته على الخيالي ، ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا .
والاستثناء في قوله تعالى : " إلا الله " استثناء من أحد طرفي القضية ، لا من النسبة الحكمية ، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم ، وذلك من مواقع الاستثناء ؛ لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه ، فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبل الاستثناء ، وذلك في المفرغ وفي المنصوب ، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه ، وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ ، فيقال حينئذ : إن " إلا " بمعنى غير ، والمستثنى يعرب بدلا من المستثنى منه .
وفرع على هذا الاستدلال إنشاء تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى :
فسبحان الله رب العرش عما يصفون أي عما يصفونه به من وجود الشريك .
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة .
ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات ، وهو شيء لا ينازعون فيه ، بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها - وهو العرش - تعريضا بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك .