أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما
قرأ الجمهور " أولم " بواو بعد الهمزة وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب . وقرأ
ابن كثير " ألم ير " بدون واو عطف . قال
أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف
أهل مكة . قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به
عثمان إلى
مكة فالتزم قراء
مكة رواية عدم الواو إلى أن قرأ بها
ابن كثير ، وأهملت غير قراءته .
[ ص: 53 ] والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر . والرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية . والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما ؛ لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار إعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جدير أيضا بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله .
والرتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء .
والفتق : ضده وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء .
والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رتق إخبار بالمصدر ؛ للمبالغة في حصول الصفة ، ثم إن قوله تعالى : " كانتا " يحتمل أن تكونا معا رتقا واحدا بأن تكون السماوات والأرض جسما ملتئما متصلا ، ويحتمل أن تكون كل سماء رتقا على حدتها ، والأرض رتقا على حدتها ، وكذلك الاحتمال في قوله تعالى : " ففتقناهما " .
وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقا ؛ لأن الرتق متمكن منهما أشد تمكن كما قلنا ؛ ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي .
والرتق يحتمل أن يراد به معان تنشأ على محتملاتها معان في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتق المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ،
[ ص: 54 ] والفتق هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلا من السماء ، ويرى البريق يلج منها ، والصواعق تسقط منها ، فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالة على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى :
فأحيينا به الأرض بعد موتها في سورة فاطر .
وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضا إنكاريا متوجها إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات . واحتمل أن يراد بالرتق معان غير مشاهدة ولكنها مما ينبغي طلب العلم به ؛ لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال . ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقا واحدا ، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى :
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء في سورة " هود " .
ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقا في حد ذاتها وكانت الأرض رتقا في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الأرض ، وهذا كقوله تعالى :
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم في سورة فصلت .
[ ص: 55 ] وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريريا عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوبا بالإنكار على ذلك .
وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضا الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه ، قال تعالى :
أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم .
ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد . وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر ؛ لأن الرتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم ، قال تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله .
ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نورا أضاء الموجودات .
ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيرا أو عماء ، كما جاء في الحديث : " كان في عماء " ، فكانت جنسا عاليا متحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد ، ثم خلق الله من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكل بعض مميزات ذاتية ، فصير كل متميز بحقيقة جنسا ، فصارت أجناسا . ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها ، فصارت أنواعا . وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء ، وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب " مرآة العارفين " جعل الرتق علما على العنصر الأعظم يعني الجسم الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش ، ذكر ذلك
الحكيم الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب " معارج النور في أسماء الله
[ ص: 56 ] الحسنى " المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل
تونس عام 1185 هـ في مقدمات كتابه " معارج النور " وفي رسالة له سماها " رسالة الفتق والرتق " .
والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق ؛ إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعا ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم ، فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير .