ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ ص: 108 ] هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد . وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد
الكلدان إلى أرض
فلسطين وهي بلاد
كنعان .
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين ، واستصحب
إبراهيم معه
لوطا ابن أخيه (
هاران ) لأنه آمن بما جاء به
إبراهيم ، وكانت
سارة امرأة
إبراهيم معهما ، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته .
وانتصب
لوطا على المفعول معه لا على المفعول به لأن
لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلق به فعل الإنجاء .
وضمن ( نجيناه ) معنى الإخراج فعدي بحرف ( إلى ) .
والأرض : هي أرض
فلسطين ، ووصفها الله بأنه باركها للعالمين ، أي للناس ، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن . وورد في التوراة : أن الله قال
لإبراهيم : إنها تفيض لبنا وعسلا .
والبركة : وفرة الخير والنفع . وتقدم في قوله تعالى
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا في سورة آل عمران .
وهبة
إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه
سارة من الولادة .
[ ص: 109 ] وهبة
يعقوب ازدياد
لإسحاق بن إبراهيم في حياة
إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا .
والنافلة : الزيادة غير الموعودة ، فإن
إبراهيم سأل ربه فقال
رب هب لي من الصالحين أراد الولد فولد له
إسماعيل ، كما في سورة الصافات ثم ولد له
إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة ، وولد
لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة .
وانتصب ( نافلة ) على الحال التي عاملها ( وهبنا ) فتكون حالا من
إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها .
وتنوين ( كلا ) عوض عن المضاف إليه . والمعنى : وكلهم جعلنا صالحين ، أي أصلحنا نفوسهم . والمراد
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم . وأما
لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية .
وإعادة فعل ( جعل ) في قوله تعالى
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا دون أن يقال : وأئمة يهدون ، بعطف ( أئمة ) على ( الصالحين ) ، اهتماما بهذا الجعل الشريف ، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار ، ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول ، وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق .
والأئمة : جمع إمام وهو القدوة والذي يعمل كعمله . وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر .
[ ص: 110 ] وجملة ( يهدون ) في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة ، أي أنهم أئمة هدى وإرشاد . وقوله ( لأمرنا ) أي كانوا هادين بأمر الله ، وهو الوحي زيادة على الجعل .
وفي الكشاف : فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميل اهـ . وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان . ويشمل هذا شؤون الإيمان وشعبه وآدابه .
وأما قوله تعالى
وأوحينا إليهم فعل الخيرات فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات . وقد شملها قوله تعالى ( فعل الخيرات ) .
و ( فعل الخيرات ) مصدر مضاف إلى ( الخيرات ) ، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله ، وأما الفاعل فتبع له ، أي أن يفعلوا هم ويفعل قومهم الخيرات ، حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم ، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه ، واعتبار المصدر مصدرا لفعل مبني للنائب جائز إذا قامت القرينة . وهذا ما يؤذن به صنيع
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . على أن
الأخفش أجازه بدون شرط . ويجوز أن يكون ( فعل الخيرات ) هو الموحى به ، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام ، فيكون المصدر قائما مقام الفعل مرادا به الطلب ، والتقدير : افعلوا الخيرات ، كقوله تعالى
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ،
[ ص: 111 ] وتخصيص إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما ؛ لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبالزكاة صلاح المجتمع لكفاية عوز المعوزين ، وهذا إشارة إلى
أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم - عليه السلام - .
ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بين ، ثم خصهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دل عليه فعل الكون المفيد تمكن الوصف ، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال
يوسف ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وقال تعالى في الثناء على
إبراهيم وما كان من المشركين .