رب العالمين
وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي ، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلق متعلق أيضا ، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال
يوم يقوم الناس لرب العالمين ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته . وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي رب العالمين ، الرحمن ، الرحيم ، ملك يوم الدين ، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية . وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلا منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضا غنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة علمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كلا مدلولي الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له . مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يميزه عن الآلهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى
ملك يوم الدين والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فعل من ربه يربه بمعنى رباه وهو رب بمعنى مرب وسائس .
والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملكه ، فإن كان مصدرا على الوجهين فالوصف به للمبالغة ، وهو ظاهر ، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فعل من فعل يفعل إلا قليلا ، من ذلك قولهم نم الحديث ينمه فهو نم للحديث . والأظهر أنه مشتق من ربه بمعنى رباه وساسه ، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها ، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك
ملك يوم الدين كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي
[ ص: 167 ] إليه هنا ، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا ، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا ، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب الكشاف إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة ، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفى .
والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا لما علمت من وزنه واشتقاقه . قال
الحارث بن حلزة :
وهو الرب والشهيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء
يعني
عمرو بن هند . وقال
النابغة في
النعمان بن الحارث :
تخب إلى النعمان حتى تناله فدى لك من رب طريفي وتالدي
وقال في
النعمان بن المنذر حين مرض
ورب عليه الله أحسن صنعه وكان له على البرية ناصرا
وقال صاحب الكشاف ومن تابعه : إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه ، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال
غاوي بن ظالم أو
عباس بن مرداس :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب
وسموا العزى الربة . وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى . وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان .
وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضا حين حكى عن
يوسف عليه السلام قوله
إنه ربي أحسن مثواي إذا كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله
أأرباب متفرقون خير فهذا إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام ، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به
يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل ، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده
[ ص: 168 ] ربي وليقل : سيدي ، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار ، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب .
والعالمين جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين عالم وياسم ، اسم للزهر المعروف بالياسمين ، قيل جمعوه على ياسمون وياسمين قال
الأعشى :
وقابلنا الجل والياسم ون والمسمعات وقصابها
والعالم الجنس من أجناس الموجودات وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقا من العلم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة ، أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره .
وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالبا كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع ، أو العلم بالحقائق . ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة ، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليبا للعاقل .
وقد قال
التفتزاني في شرح الكشاف العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق ، يقال عالم الملك ، عالم الإنسان ، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافا لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان ، عالم النبات وليس اسما لمجموع ما سواه تعالى بحيث يكون له إجراء فيمتنع جمعه وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى ، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات .
والتعريف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعا للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب الكشاف ليشمل كل جنس مما سمي به إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاما واضحا إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق .
وإنما جمع العالم ولم يؤت به مفردا لأن الجمع قرينة على الاستغراق ، لأنه لو أفرد لتوهم أن
[ ص: 169 ] المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصا على الاستغراق ، وهذه سنة الجموع مع ( ال ) الاستغراقية على التحقيق ، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساويا لاستغراق المفردات أو أشمل منه .
وبطل ما شاع عند متابعي
السكاكي من قولهم : استغراق المفرد أشمل كما سنبينه عند قوله تعالى
وعلم آدم الأسماء كلها